دراسات في التاريخ الشفهي والمحلي للتركمان في سوريا والأناضول
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
طبيب – باحث في الشأن التركي وأوراسيا
المقدمة
إنَّ كتاب دراسات في التاريخ الشفهي والمحلي للتركمان في سوريا والأناضول قد وُضِع بين يدي القارئ لتعريفه ولو نبذة يسيرة عن حياة وثقافة وتراث وعادات وتقاليد المجتمع التركماني العريق منذ قدومهم من آسيا الوسطى واستقرارهم في سوريا والأناضول منذ قرون ، وكذلك عمَّا وجدوه من الشدائد والصعوبات والعقبات في سُبُلِ الحياة الكريمة والاستقرار , وليس ذلك من باب التعصب أو التمييز العرقي أو القومي أو الطائفي ربما كما يظنُّ أو يفهم البعض معاذ الله , فقد قال الله تعالى : ( تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون ) وكلنا يؤمن بأن أمة الإسلام واحدة من العرب والكرد والتركمان وغيرهم من الشعوب والأقوام المسلمة وعقيدتنا ( إنما المؤمنون إخوة ) قال الله عزَ وجلَّ : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فالغاية من خلق البشر هي التقوى والتعارف بين الشعوب والقبائل وليست عمل الحروب أو الغزوات أو فتح جبهات القتال فيما بينهم ، وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : " كُلُّكم لآدم وآدم من تراب " وقال عليه الصلاة والسلام : " لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ".
فنحمد الله تعالى ونشكره على نعمة الإيمان والإسلام ومن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام , ونسأله جلَّ وعلا أن يجعلنا إخوة متحابين فيه ومن عباده الصالحين الصادقين , إنه أكرم مسؤول وخير مجيب ، والحمد لله رب العالمين.
في 7/7/2023م
المراجعة والتدقيق الأستاذ طلعت حكمت علي
دراسات في التاريخ الشفهي والمحلي للتركمان في سوريا والأناضول
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
طبيب – باحث في الشأن التركي وأوراسيا
التمهيد
يقال إن الجغرافيا قدر، وهذا القدريختلف كثيراً في الشرق الأوسط باختلاف الحدود ، حيث إن التنوع العرقي واللغوي والطائفي والثقافي وخاصة في الجزء الشمالي من سوريا كان أحد أعمدة التنافس بين القوى الإقليمية والعالمية بعد أحداث عام 2011م , وسوف نتكلم في هذا البحث عن إحدى أهم وأكثرالاثنيات جذوراً من حيث التاريخ في هذه المنطقة ألا وهم التركمان ، كما أننا سوف نقوم بتحليل التاريخ القديم والمعاصر للاستيطان التركماني في شمال سوريا خلال فترات النضال الوطني والانتداب والاستقلال وإجراء تقييم عام من خلال النظر في البنية التحتية والاستراتيجية للمستوطنات التركمانية في إطار أنشطة السكان والتأثير والخلفية الاجتماعية
ونتيجة لذلك تتزايد أهمية كل من الشمال السوري والتركمان بالنسبة لتركيا , وفي معظم الأحيان تعتبر حدود البلدان هي أيضاً حدود حياة الناس الذين يعيشون فيها ، فالحدود التي رُسِمت قبل قرن في الشرق الأوسط عملت على تقييد حياة الشعوب في المنطقة من قبل القوى الخارجية , ولقد شهدنا خطواتها ولأكثر من ربع قرن كيف أن الرسومات الحدودية المرتبة من الخارج أدت إلى قلب حياة السكان المحليين رأساً على عقب
وتعد دراسات التاريخ الشفهي والمحلي طريقة بحث برزت إلى الواجهة في تخصص التاريخ متأخراً ، ومثل هذه الدراسات منتشرة ومقبولة في الغرب من خلال البحث العلمي التاريخي ، وفي المقابل برزت دراسات في التاريخ الشفهي والمحلي في تركيا منذ التاريخ القديم والمعاصر ، ومن أبرزهؤلاء الباحثين الأتراك علي رضا يالكين الذي له دراسات مهمة حول الموروث الشعبي التركماني والذي كتب أبحاثه مستنداً إلى الأحاديث وشهادات أبناء المنطقة من وجهاء ورؤساء القبائل التركمانية ، وكذلك من الشعراء الشعبيين الذين سطروا الأحداث التاريخية في أشعارهم وتناقلتها أجيال بعد أجيال الذين يتغنّون بها عبر التاريخ وإلى الآن
الكلمات المفتاحية: التاريخ الشفوي والمحلي ، علي رضا يالكن ، التركمان ، حلب ، الفولكلور
Abstract
It is said that geography is destiny, and this destiny differs greatly in the Middle East with different borders, as the ethnic, linguistic, sectarian and cultural diversity, especially in the northern part of Syria, was one of the pillars of competition between regional and global powers after the events of 2011 AD, and we will talk in this research about one of the most important and deeply rooted ethnicities In terms of history in this region, namely the Turkmen illusion, we will also analyze the ancient and contemporary history of the Turkmen settlement in northern Syria during the periods of national struggle, mandate and independence and make a general assessment by looking at the infrastructure and strategy of the Turkmen settlements in the framework of the activities of the population and the influence and social background. Therefore, the importance of both northern Syria and Turkmen for Turkey is increasing, and in most cases the borders of countries are also considered the limits of the lives of the people who live in them. From a quarter of a century ago how arranged border drawings from the outside turned the lives of local residents upside down.
Oral and local history studies are a delayed research method in the discipline of history. It is accepted that it emerged and spread in the West with scientific historiography. This oral and local history in Turkey against acceptance has become a hot topic in the early stages. Ali Riza Yalkin one of the most important representatives of the oral and local history shaped around a particular scientific methodology in Turkey. Working mainly on ethnography, folklore and traditions, Yalkın often shared his findings on oral history. Although Yalkın’s work is not widely used by historians, it is a very rich resource because of the different contents he comes into contact with. In this context, oral and local history studies in Turkey, where the investigation has been investigated and the importance of doing that Yalkın. In addition, the operation of the Yalkın origins of oral and local history research in Turkey has been the subject of scrutiny.
Keywords: Oral And Local History, Ali Rıza Yalkın, Turkmens, Aleppo, Folklore.
من هو علي رضا يالكين ؟
ولد علي رضا يالكين في بلدة أوسترومكا في سالونيك اليونانية في شهر أكتوبر من عام 1888م وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية هناك درس وتخرّج من مدرسة المعلمين في إسطنبول ثم عمل مدرساً في مدرسة ابتدائية ومديراً في مقاطعات مثل مرسين وتكيرداغ , وعندما صدرقانون اللقب استخدم لقب يالمان ثم غيّره لاحقاً إلى " يالكين "
بدأ يالكين حياته في التنقل بين مدن قونيا وهاتاي وغازي عنتاب بسبب ظروف مهنته حيث جذب انتباه الفولكلور والإثنوغرافيا , كما بدأ بكتابة مقالات في صحيفة "باباليك" في مدينة قونيا ونشر سلسلة من المقالات عن حياة كاراجا أوغلان والتي يمكن اعتبار هذه الدراسة أول دراسة مهمة في حياته ، ثم عُيّن مديراً لمتحف أضنا في عام 1933م
زار يالكين التركمان في جبال طوروس لتعميق دراسته وأجرى دراسات ميدانية في التاريخ الشفهي والمحلي ثم عُيّن مديراً لمتحف بورصا في عام 1940م وأنشأ متحف الإثنوغرافيا والفولكلور
ومن ثم تم تعيينه في المديرية العامة لمتاحف أنقرة في عام 1944م ثم عُيّن في مديرية متاحف بورصا مرة أخرى في عام 1949م
تقاعد يالكين في عام 1950م واستقر في توزلا بإسطنبول ونشر العديد من المقالات عن عمله في الصحف , وتوفي رحمه الله تعالى في 1 نوفمبر 1960م عن عمريناهز 73 عاماً. قام في أعماله بتجميع ونسخ الكثير من البيانات حول التاريخ الشفوي والمحلي ونقلها إلى الأجيال القادمة من خلال منع ضياعها. في سياق دراسات التاريخ الشفوي والمحلي ، فإن مقدمة فؤاد كوبرولو ، الموجودة في المجلد الأول من العمل الذي كتبه يالكن بعنوان "القبائل التركمانية في الجنوب" الذي كتبه يالكن ، يعبر عن أهمية الدراسات (1)
ويؤكد كوبرولو صراحة أن معلومات التاريخ الشفهي والمحلي التي تم الحصول عليها نتيجة للدراسات الميدانية حول الفولكلور والإثنوغرافيا في جنوب شرق الأناضول. يذكر يالكن أيضًا في مقدمة المجلد الأول لعمل القبائل التركمانية الجنوبية حول هذا الموضوع نتيجة الملاحظات التي توصل إليها في دراساته الميدانية التي قام بها بين تركمان منطقة طوروس وتركمان مناطق في ريف حلب الشمالي لمدة 10 سنوات وذلك منذ فبراير 1922م
........................................................................................................
10(1) علي رضا يالمان ، القبائل التركمانية في الجنوب ، منشورات وزارة الثقافة ، أنقرة 1977 ، ص. 9-
منهاج يالكين في دراسات التاريخ الشفهي والمحلي
أجرى علي رضا يالكين دراسات وأبحاثاً قيمة في التاريخ الشفهي والمحلي حول القيم والعادات والتقاليد التركمانية التي لم تكن مدونة في الغالب , حيث لا يمكن القول إن التركمان الذين كانوا في وضع بدوي قد تركوا التدوين والعديد من الأعمال المكتوبة بسبب أنماط حياتهم البدوية ، فقد عاشوا من خلال تطوير عناصر الثقافة الشفهية المتوارثة بين القبائل التركمانية ، لذلك كان لابد من تحديد العناصر الإثنوغرافية والتاريخية والفنية إما شفهياً أو من خلال عرض الملاحظات , وهذا ما دفع يالكين باستبدال البحث القائم إلى البحث الميداني واتباع منهج علمي لتقييم وتوثيق عناصر التاريخ الشفهي والمحلي التي حصل عليها نتيجة رحلته في البحث الميداني ، حيث إن منهجه هذا ومصدر معلوماته شفاف ومفتوح للنقد من قبل الآخرين , فقد ذكر يالكين مصدر حصوله على المعلومات أثناء وصفه لعناصر التاريخ الشفهي والمحلي مبيناً اسم القبيلة والأشخاص والوقت والمكان الذي حصل فيه على المعلومات ونقلها إلى القراء , وهذا مهم جداً من حيث معرفة مصدر المعلومات وزيادة موثوقيتها ووضعها على أساس علمي واجتماعي.
استشهد يالكين بالعديد من المصادر في معلومات التاريخ الشفهي والمحلي التي نقلها ، فعلى سبيل المثال ما نقله عن تركمان إيلبايلي عن قره حسن أفندي وعمر آغا ، والمعلومات التي نقلها عن تركمان باي ديلي عن وجهاء التركمان المحليين في المنطقة أمثال محمد مصطفى باشا وأحمد مصطفى باشا وأحمد عيسى وبوزان الجمعة من قبيلة البكمشلي ، والمعلومات التي نقلها عن تركمان بيريلي عن حنيف آغا وفاسيف بيكو الذين استقروا في مناطق متفرقة ، وكذلك نقل معلومات القبائل التركمانية عن ديمشكلي ( شاملي ) إدريس آغا وبراقلي إدريس طورون قادر , والمعلومات التي نقلها عن التركمان الآخرين عن عمر آغا وحسن باي ( بيك ) وخليل آغا وعقيل خوجه وابن داود , وأثناء عمله في مدينة كيليس استفاد من اثنين من كبار السن هما إدريس آغا من قرية إسبانك وطورون قادر آغا من قرية ملك ، وحصل منهما على مزيد من المعلومات بسبب تجاربه ، فقد ذكر على سبيل المثال أن هناك معلومات تفيد بأن التركمان كانوا موجودين حول حسن داغي الذين يطلقون عليهم اسم " إيزيلي " وهذا ما أخبر عنه علي آغا ابن هاس كوسه.
لم ينقل يالكين أسماء الذين تلقى منهم المعلومات فحسب ، بل جعل المعلومات الدقيقة والموثوقة من خلال إعطاء تفاصيل الزمان والمكان(2) , وأثناء نقله للمعلومات استفاد بشكل خاص من كبار السن نظراً لأن الاستماع إلى معلومات التاريخ الشفهي والمحلي عن مصادر مباشرة والاستفادة
..........................................................................................................
(2) يقول يالكن ، الذي جاء إلى قبيلة بولاجالي ، إنه وصل إلى هنا في 18 يوليو 1928؛ وجاء إلى قبيلة كيشافلي يوم الجمعة 20 يوليو 1928 في حوالي الساعة 17.00 ، وأن محمد آغا ، أحد أغنى قبيلة المنطقة ، قضى يومًا في منزله
من خبراتهم في الحصول على معلومات الأزمنة السابقة ربما كانت الفكرة الرئيسية للباحث في هذا السياق.غير أن الباحث يالكين قد تواصل أيضاً مع من كان يعرف الأغاني الشعبية بين القبائل التركمانية ومعرفة معاني تلك الأغاني منهم ، لأن الأغاني الشعبية كانت من أهم المصادر للتواصل بين التركمان الذين كانوا تحت تأثير الثقافة الشفهية بسبب طبيعتهم البدوية , لهذا السبب أعطى يالكين أهمية خاصة لتسجيل الأغاني الشعبية ونقدها بين الحين والآخر ومقارنتها مع بعضها البعض
قام يالكين في أعماله بجمع ونسخ الكثير من البيانات والمعلومات حول التاريخ الشفهي والمحلي ونقلها إلى الأجيال الأخرى القادمة للحفاظ عليها من الضياع. وفي سياق دراساته التي كتبها ونشرها يالكين في كتابه بعنوان " القبائل التركمانية في الجنوب " فإن مقدمة فؤاد كوبرولو في المجلد الأول منه تعبر عن أهمية هذه الدراسات مضيفاً أن هذا العمل قد أُنشِئ باستخدام الموروث الشعبي والتاريخ الشفهي والمحلي حول الفولكلور والإثنوغرافيا في جنوب شرق الأناضول نتيجة للدراسات الميدانية , كما يذكر يالكين في مقدمة المجلد الأول من كتابه المذكور أنه ابتكر هذا العمل بناءً على الملاحظات التي توصل إليها نتيجة للدراسات الميدانية التي امتدت لعشر سنوات ابتداءً من شهر فبراير من عام 1922م في المناطق التي يعيش فيها التركمان مابين جبال طوروس والمناطق التركمان في سوريا على الحدود التركية السورية.ولم تقتصر دراسات يالكين الميدانية في التاريخ الشفهي والمحلي قائمةً على الزمان والمكان فحسب ، بل أيضاً أنه عندما ذهب إلى مدينة كيليس أتيحت له الفرصة للتعرف عليهم عن قرب وبشكل أفضل وأكثر
وعندما قام بزيارة قبيلة إيلبيلي وهي زيارته الثالثة إلى المنطقة في 8 مايو من عام 1931م واستمرت عشرة أيام للبحث والدراسة أكّد من خلالها إلى أن الدراسات التاريخية والفولكلورية التي يذكرها في أعماله تستند إلى أبحاث ميدانية تحتوي على عناصر تتعلق بالتاريخ الشفهي والمحلي , حيث قدم معلومات مستفيضة وقيمة وليس عن التاريخ الشفهي والمحلي فحسب ، وإنما قدم دراسة عن الإثنوغرافيا والفولكلور والثقافة والموسيقى والعديد من المجالات الأخرى أيضاً ، وهذا مايجعله استثنائياً في الدراسات الميدانية التي أجراها بمنهج علمي في فترة يمكن اعتبارها مبكرة لأنه سجل العناصر الثقافية الغير الملموسة أو المدونة التي من المحتمل أن تضيع وذلك بمنهجية نقدية بقيت حتى هذا اليوم , وكان يالكين له لقاءات مباشرة مع وجهاء وزعماء القبائل التركمانية لمقارنة ومطابقة المعلومات التاريخية الشفهية والمحلية المتوارثة في موروث الشعب التركماني بالمعلومات التي حصل عليها نتيجة لدراساته الميدانية
ومن أبرز أعماله
- أوغوز بهليفان ( جريدة طرسوس 3 نوفمبر 1927م )
- قراجه أوغلان ( جريدة طرسوس 16 مارس 1928م )
- القبائل التركمانية في الجنوب ( 1931-1939م )
- الطوابع التركية في الأناضول من أولوداغ إلى طوروس ( 1934م )
- أسلوب الصيد جوكوروفا في الموروث الشعبي ( 1937م )
- عازفو التركمان في الجنوب ( 1940م )
- احتساب المهجع والإثنوغرافيا في منطقة قره تبه لي في جبال طوروس ( 1950م )
التراث الشعبي التركماني
لقد كانت هجرة التركمان من تركستان الشرقية وآسيا الوسطى نحو الشرق قبل آلاف السنين بجحافل هائلة ، ونظراً لاتساع الرقعة التي حكمها التركمان في أقطار آسيا أدت إلى امتزاج قصص التركمان بقصص شعوب الشرق والمناطق التي حكموها بالعدل والإنصاف , كما أنها شملت ميداناً واسعاً عكست حياة الإنسان التركماني بكافة مظاهرها ، وكانت تلك القصص قد دُوِّنت بحق تدويناً صادقاً لفترة مهمة من تاريخ الشعب التركماني النبيل.
ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن معظم القصص القديمة في الموروث الشعبي لم تكن تكتب اعتباطاً وإنما كانت نابعة من حاجة الجمهور الواسع إلى ذلك لتؤمن لهم ماكانوا يفتقرون إليه من الأمن ولأجل الإلهاء عن حاجاتهم المعيشية وبالتحديد عن جوعهم المادي وضعفهم المعنوي ، وهذا مادفع بعض الحكام آنذاك إلى تشجيع هذا النوع من الأدب وذلك بما أغدقوا على القصاصين والرواة من جزيل العطايا والهدايا
ولعل من أقدم القصص التركمانية المدونة ما وصل إلينا عن طريق (داده قورقوت) (3) والقصص الشعبية التي تروي بطولات التركمان وحروبهم وفروسيتهم الرفيعة ، وكذلك الأنواع الأخرى من القصص العاطفية كقصص الحب وغيرها, وإذا ألقينا نظرة إلى تلك الحكايات القديمة فإننا نجد معظمها تمتاز بأجوائها القبلية البسيطة وبصور الحياة البدوية التي عاشها التركمان في تلك الحقب التاريخية , كما نجد فيها ملامح حية عن واقع التركمان وبطولاتهم وتحملهم للظروف القاسية وذلك بسرد غزواتهم وحروبهم وهجراتهم المتعاقبة , وفي الحقيقة إن هذه القصص تعتبر أفضل مرآة تعكس ماكان عليه أجدادنا التركمان وسجلاتهم الحافلة بأعمالهم البطولية وآثارهم المميزة
وينقسم الموروث الشعبي التركماني إلى قسمين
1- الأدب الشعبي مجهول المؤلف : وهو الأدب الذي لايُعرف منشؤه ولا زمان إنشائه ، لذلك يعد تراثاً عاماً للشعب.
ومن فنون هذا الأدب الحكايا الشعبية مثل : القصص الشعبية والنوادر والنكت والقصص التعليمية والتربوية والأخلاقية والأساطير والحكم والأمثال الشعبية والأغاني والخوريات والاصطلاحات الأدبية والرثاء.
2- الأدب الشعبي معروف المؤلف : وهو الأدب الذي أنشأه مؤلف معروف وينقسم إلى قسمين
أ- السير : وهي لون من القصص الطويلة التي تتراوح بين النثر والشعر نظمها شعراء معروفون في الأدب التركماني ويطلق عليهم اسم ( العاشق ) ويسمى ( عاشق أدبياتي ) أي أدب العشاق ، وهي ما تدورأحداثها حول البطولات والفروسية والحب وتشتمل على أشعار ملحمية , ولما كان ممتهنو هذا الفن يتغنون بآلة موسيقية ( صاز ) أي آلة البزق الخاصة بالتراث التركماني أُطلِق عليهم ( شعراء الصاز )
وقد تطور هذا النوع من الأدب الشعبي في المقاهي الشعبية ومضافات القرى وخاصة في ليالي الشتاء الطويلة وليالي شهر رمضان المبارك , حيث تأثر كثيراً بالحضارة الإسلامية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر , لذلك نجد فيها كثيراً من الألفاظ والكلمات العربية ، ومن أشهر هذه السير ( كور أوغلو ) و ( كرم وأصلي ) و ( أرزي وقنبر ) و ( ليلى ومجنون ) وغيرها
......................................................................................................
(3) كتاب دده قورقوت أقدم ملحمة أسطورية لدى لأتراك الأوغوز في تركيا، وأذربيجان، وتركمانستان، وكازاخستان قيرغيزستان
ب- الأدب الديني : وهو الأدب الخاص الذي نشأ في ظلال المشاعر الدينية المستمدة من روح الدين الإسلامي الحنيف ، فبعد اعتناق التركمان للدين الإسلامي ساير الأدب التركماني القديم الدين الجديد لينتج عنه نوعاً من الأدب المحدث بالصبغة الإسلامية ، ويصنفه بعض الباحثين إلى
أ- أدب الديوان : وهو نوع قد بقي حكراً على الطبقة الحاكمة من السلاطين والحكام والوزراء وأتباعهم.
ب- أدب التكايا : وهو ما نشأ في زوايا التكايا التي كانت تُعَد المحفل الأدبي والتوجيهي للمتصوفين ، ومن فنون هذا الأدب الأنفاس البكتاشية والصوفية والمدائح النبوية.
ويشكل التاريخ الشفهي والمحلي حول منهجية علمية معينة في تركيا , وإن الباحث التركي علي رضا يالكين هو أحد أبرز المهتمين في هذا المجال , فقد عمل على الإثنوغرافيا والفولكلور والتقاليد التركمانية القديمة وغالباً ما شارك نتائج أبحاثه حول التاريخ الشفهي والمحلي للتركمان , على الرغم من أن عمله لا يستخدم كثيراً من قبل المؤرخين إلا أنه يُعد مصدراً غنياً جداً بالمعلومات التاريخية بسبب المحتويات المختلفة التي كان يتعامل بها ,
وفي هذا السياق تم البحث عن أهمية تحليلاته في دراسات التاريخ الشفهي والمحلي في الأناضول
القبائل التركمانية في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
بدأ الباحث يالكين بتكثيف عمله عن التركمان في الربع الثاني من القرن العشرين من الناحية التاريخية والجغرافية والإثنوغرافية.... إلخ , وهذه المعلومات لاتخص الفترة التي أُجرى فيها البحث فحسب ، بل تقدم أيضاً معلومات حول الرموز الثقافية للأتراك التركمان التي تعود إلى عصورهم القديمة ، لأن عناصر التركمان الرحل في الأناضول كانوا أقل تأثراً بالمجتمعات والثقافات الأخرى من الأتراك المستقرين في الأناضول
في الحقيقة صعوبة الوصول إلى المناطق الجغرافية التي يعيش فيها التركمان ولا سيما الجبال والسهول قد جعلت من السهل على التركمان العيش في عزلة أكبر وترسيخ روابطهم العرقية والدينية والثقافية بشكل أفضل
لكن الأتراك المستقرين في الأناضول عاشوا مع مجتمعات كثيرة مختلفة في مدن سهلة من حيث الجغرافيا والمواصلات وتأثروا بثقافات عديدة بالمقارنة مع التركمان الرحل ، لذلك تكشف تحقيقات ودراسات يالكين حول التركمان عن الاستمرارية التاريخية والثقافية التي تعود إلى العصور القديمة جداً وكذلك الوضع في الوقت الحالي
سافر يالكين عبر الأناضول إلى حلب ومنطقة باير بوجاق والرقة وتل الأبيض وقرى جبال طوروس وجمع معلومات عن جغرافيتها وتاريخ القبائل التي تعيش فيها ، وأثناء سرد المعلومات عن القبائل التركمانية قدم معلومات عن أنساب التركمان في تلك المناطق مع مقارنة المعلومات التاريخية والمعاصرة لسلالات الأنساب للقبائل التركمانية شفهياً ومحلياً على وجه الخصوص
وحصل يالكين على هذه المعلومات شفهياً من زعماء القبائل التركمانية بشكل مباشر ، حيث سرد التركمان الذين يعيشون في جبال طوروس ومناطق حلب وباير بوجاق والرقة على أنهم من قبائل باي ديلي وإيلبيلي وبيريلي وبراق وقبائل تركمانية أخرى , بالإضافة إلى ذلك ذكر يالكين القرى التي استقرت فيها هذه القبائل التركمانية من بايديلي ( القبائل الإثنا عشر ورؤساؤها ) بالتفصيل
وقد تمت دراسة القبائل الخمسة من باينديرلي والقبائل الإثنا عشر من براق والقبائل الخمسة من بيريلي والقبائل السبعة من إيلبيلي وسبعة قبائل مختلفة أخرى بما في ذلك أسماء القرى والبلدات وأسماء زعماء تلك االقبائل
ونتيجة لدراسات التاريخ الشفهي والمحلي فقد تم تحديد أسماء زعماء 29 قرية تركمانية وتسعة منها تنتمي إلى قرية إيلبيلي
يحاول يالكين تأكيد علمه من خلال سؤاله لخليل آغا عما إذا كانت هناك قبيلة تسمى شامان أو شاهمان بين القبائل التركمانية ؟ فيجيبه خليل آغا : نعم إن هناك سهلاً تركمانياً في سوريا اسمه شاهمان ولكنهم فقدوا أصالتهم وابتعدواعن التدين واستعربوا وفيما بعد أسسوا في دمشق وبغداد ، كما أنهم يعرفون ويذكرون أسلافهم السبعة ويقولون بأن أجدادهم من الأتراك ولكنهم استعربوا فيما بعد باستخدام التاريخ الشفهي والمحلي.(4)
كما نقل الباحث يالكين معلومات حول أصول القبائل التركمانية وعلى سبيل المثال ووفقاً لما سجله أبو الهدى أفندي عن قبيلة إيلبيلي يقول بأنه يبلغ عددهم 80 ألف خيمة من 36 فرع
..........................................................................................................
(4) على سبيل المثال ، وفقًا لما سجلته أبو الهدى أفندي عن قبيلة البيلي ، يبلغ عدد سكان التركمان 80 ألف خانه ومقسمون 36 فرع. ويلتقى يالكن بعبدال ، يسأله عن شجرة نسبه ويسجل ما يقوله. بتعبير قره حسن بك ، تُروى أنساب البيلي في سياق التاريخ الشفوي .
بالإضافة إلى الأحداث التاريخية والحروب والهجرات والإسكان والجغرافيا في الفترات التاريخية الماضية ، فعندما ذهب يالكين إلى قرية إسبانك ( بولاتيلي بوجاغي ) نقل المعلومات التي تلقاها من الرجل المسن إدريس كاهيا الذي يذكر أن قريتهم تتألف من 40 أسرة وأنه يطلق على قبيلتهم دمشقلي , ويذكر أنه قبل 400 عام كانت قبيلتهم مؤلفة من 700 خيمة متوزعين في منطقة سيواس وكانوا يعيشون مع قبائل ريشفان التركمانية , ثم بعد ذلك انهارت علاقاتهم مع قبائل ريشفان بعد أن قتلوا 400 قطيع الذي تسبب بترحيل 500 تركماني وإسكانهم في دمشق حيث كان أول مبنى لهم فيها , ويقول إن قبيلته انتشرت في سيواس وقونيا وأنقرة ودمشق وأن جزءاً منها قد هاجروا إلى مدينة يوزغات بسبب المجاعة في عام 1873م
ووفقاً لما ذكره علي آغا ابن حاسي حسن باي ( بيك ) من قبيلة قره حاجي أن قبيلته قره حاجي استقرت في 24 قرية في شمال أضنا شرق النهر وتعيش مجموعة أخرى منهم على شكل يوروك رحل
ويعتبر محمد بيك وحجي حسن بيك وإسماعيل كاهيا ابن أر أوغلو من أهم الأشخاص الذين تحدث معهم يالكين أيضاً في هذه القبيلة التي استقر جزء منهم في عاكف باشا وظل الجزء الآخر مثل البدو الرُّحَّل لأنهم رفضوا الاستقرار ، كما حصل يالكين على معلومات عن التاريخ الشفهي والمحلي عن الأصول اللغوية والخلفيات التاريخية لأسماء القبائل التركمانية وطلب من التركمان مراراً تأكيد هذه المعلومات التي حصل عليها. بالنسبة لأصل الاسم قاجار التقى يالكن مع عادل آغا من قبيلة قاجار. أفاد عادل آغا أن قبيلة قاجارتم تكليفهم بمهمة عسكرية ،هاجموا العدو أولا ثم تظاهروا بالإنسحاب المزيف(5) وهكذا يقول إنهم يدعون بهذا الاسم لأنهم نصبوا كمينا للعدو عن طريق سحبهم للكمين. يقدم يالكن معلومة عن قبيلة هوناملي والذين يعرفون بكزيلباش وأن قبائل سنية تركمانية أخرى أهانتهم بسبب مذهبهم وتسميتهم بهور ناملي وعلى الرغم من أن اسم القبيلة مأخوذة من هنا ، فإن يالكن تذكر أيضًا أن القبيلة ترى نفسها أعلى من القبائل الأخرى لأنها تدعي أنها أتت من موطنهم الأصلي في بلاد خراسان.(6)
.............................................................................................................
(5) الانسحاب المزيف ، وهو أسلوب عسكري قديم يستخدمه الأتراك بشكل متكرر منذ القدم.
(6) كمثال أخر عن تسمية اسم القبيلة ، حصل موسى بوزلودوغان على أصل اسم الهضبة نتيجة لبحوث التاريخ الشفوي يُسجل أن هذا الاسم أطلق على الهضبة لأن رجلاً اسمه موسى قاتل وهُزم هنا.
القبائل التركمانية التي تم إسكانها في ريف حلب
كاجيلو وأحفادهم الذين يتبعون حمزة كيتهودا ابن كوسه أوغلو شرقلوصي الذي كان خاضعاً لدوردو كيتهودا , وقره أفشار الذي كان خاضعاً لحميدي كيثودا ، وحماه دوغر أوغلو الذي كان خاضعاً لمصطفى كيثودا ، وحماه دوغري الذي كان خاضعاً للدرويش كيثودا ، وجاركش أوغلو
الذي كان خاضعاً لبوزلو خليل كيتهودا ، وبوزلو الذي كان خاضعاً لأبي درده كيتهودا ، وقنك عساف الذي كان يخضع لمحمد كيثودا ، ودوندارلي أميري الذي كان يخضع لإينالو سليمان والذي كان خاضعاً للدرويش كيتهودا ، وشام بكميشلو الذي كان خاضعاً لعبد الله كيتهودا ، وبكميشلو الذي كان خاضعاً لقوجه لغانم كيتهودا ، وديملكلو الذي كان خاضعاً لقاسم كيتهودا ، وديملكو حاجدارالذي كان خاضعاً لابن بير بوداق ، وغايرغين الذي كان يخضع لديملكو ، وشيخلي المعروف أيضاً باسم اوغورلو شيخ اوغلولاري أبناء شيخ حاميش بن موسى الملقب بهاميش شيخ دوغار الذي كان خاضعاً لميرزا ، ودوغر سيف وقره طاه تيمور التابع لمحرم كيتهودا ، وفرعها الآخر الخاضع لكوسه كيتهودا ، وكيزيل علي توتيمورلو الذي كان خاضعاً لخليل كيثودا ، ودوكوزجو نهاربندلو الخاضع لمراد كيثودا ، وغونش أبناء أبي مشعل أبالو الذي كان خاضعاً لإدريس كيتهودا ، وأميري سسينجارلوم وأميري جاريك وأميري يوسون وأميري كركوز وباينديرالذين كانوا يخضعون لرستام كيتهودا ، وبايندير الذي كان خاضعاً لحاجي أحمد كيتهودا ، وساجان التابع لأحمد كيتودا وفرعه الآخر الخاضع لأمير الحاج ، وقره شيخلي الذي كان خاضعاً لموسى بن قيزيل إدريس ، وحمدانلي من قرة شيخلي الذي كان خاضعاً لأبناء طشقين ، وياديغارلا من قره شيخلي الخاضع لعيسى ، وياديغارلا من قره شيخلي والذي كان خاضعاً لإسماعيل كيتهودا ، وقره شيخلي دورابيغلو ، وقاديرلي الذي كان خاضعاً لحسين كيتهودا ، وبوز قويونلو بالابانلو وبوز قويونلو وأحفاده الذين كانوا يخضعون لفيرز كيتهودا ، وقيس الذي كان يخضع لوالي كيتهودا ، وأريلي الذي كان يخضع لأحمد كيتهودا ، وعربلي موسى وعربلي إبراهيم من بي ديلي الرحل ، وكيليجلو وأحفاده الذين كانوا خاضعين لحمزة كيتهودا الذين تقرر توطينهم في عام 1691م ، وكوسه أوغلو شرقلي الذي كان خاضعاً لدوردو كيتهودا ، وقره أفشار الذي كان خاضعاً لحميدي كيتهودا ، وحماه دوغر أوغلو الخاضع لمصطفى كيتهودا ، وقينيق الذي كان يخضع لمحمد كيتهودا ، وبوزلو المعروف أيضاً باسم شركس أوغلولاري ، وإينالي الذي كان خاضعاً لدرويش كيثودا ، ودوندارلي أميري الذي كان خاضعاً لسليمان كيتهودا ، وديمشقلي بكميشلي الذي كان خاضعاً لعبد الله آغا ، وحماه دوغري الذي كان خاضعاً لدرويش كيتهودا ، وكارا توتيمورلو التابع لمحرم كيتهودا ، وحي خاضع لسيطرة كوسه كيثودا ، وأبالو الخاضع لمشعل كيتهودا ، وأميري سينجارلي وأميري جاريك وأميري يوصون الذين كانوا يخضعون لإبراهيم كيتهودا
وأما التركمان الذين تم إسكانهم في محافظة الرقة وريفها هم بكميشلو وقره شيخلي وقره شيخلي همدانلي وقره شيخلي ياديغار وقره شيخلي دورابغلي وديمليكلي وديمليكلي حاجيلار وغايرغين قرقين وابن ديمليكل وديملوكلي وعرابلي موسى وعرابلي إبراهيم وبوز قويونلو والمناطق الخاضعة لبيديلي وبالا بانلو وبوز قويونلو وفيرز كيتهودا وبايندير والتي تخضع لرستام كيتهودا وقاديرلي وبايندير وساجانو دوغار وأريلي وغياث ودوغاري سيف وإيهولو الخاضعين للأمير الحاج ، ويبلغ مجموع هؤلاء ثلاثين ألفاً ويتألف السكان الذين يدفعون الضرائب من 2400 عائلة
الأغاني الشعبية التركمانية في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
على عكس اليوم فقد تطورت أدوات التواصل الشفهي في المجتمعات البدوية للتركمان الرحل حيث تهيمن الثقافة الشفهية على الثقافة المكتوبة لدى القبائل التركمانية من خلال تعابيرهم اليومية إلى ملاحمهم وأحزانهم وأفراحهم وبطولاتهم وتاريخهم ... إلخ , وعبرت عن الكثير من المشاعر والأفكار بالأغاني الشعبية التي هي إحدى هذه الأدوات.(7)
لم يؤد الاستخدام المكثف للأغاني الشعبية بين التركمان إلى تدريب العديد من الشعراء الشعبيين المهمين فحسب ، بل جلب أيضاً العديد من سجلات التاريخ الشفهي والمحلي إلى يومنا هذا
بما أن الأغاني الشعبية تحتوي على العديد من الموضوعات والأفكار التاريخية فهي تعكس وجهات نظر مختلفة ، فقد عبر يالكين عن علاقة الأغاني الشعبية بالتاريخ الشفهي والمحلي من خلال العبارات التالية التي قدمها الكاتب التركماني الشعبي الشهير دادال أوغلو الذي كان متأثراً بالتاريخ أكثر من الغناء الشعبي في مقطوعات فردية ، وأستطيع القول إن معظم الحكايات التركمانية الشعبية في جنوب الأناضول تعتبر من قصص هذا الشاعر الشعبي الكبير مثل قصة غانج عثمان وقصة الصراع بين رمضان أوغلولاري وكوزان أوغلولاري والحرب بين جوبان أوغلولاري وقهرمان أوغلولاري وقصة ملاحم خان محمود وكامبر يانيك والحدث المأساوي لغازي محمود وغيرها من القصص التي يرويها دادال أوغلو , فالأغاني الشعبية هي المصادر الغنية بالجودة والكمية التي تقدم أكبر قدر من المعلومات حول التاريخ الشفهي والمحلي للقبائل التركمانية.
.........................................................................................................
(7) بالإضافة إلى تنوع الموضوعات ، نرى أن طرق غناء الأغاني الشعبية قد اكتسبت أيضًا تنوعًا بين التركمان يالكين ، في بحثه الميداني حول هذا الموضوع ، يحسب ثلاثة أنواع من البوزلاغ كأصنافها ، أوروم بوزلاغ ، دودم بوزلاغ ويلري بوزلاغ
هناك العديد من الأحداث التي ورد ذكرها في الأغاني الشعبية التي مرت عبر التاريخ وكانت تعبيراً فنياً عن المشاعر والأفكار التي وصلت إلى هذا اليوم ، وضمن هذا التنوع في الأغاني الشعبية من الممكن العثور على نمط الثقافة والحياة الاجتماعية والتاريخ والعادات والتقاليد للتركمان على مدى القرون , وعلى سبيل المثال يمكن ذكر " الأغنية الشعبية لدالي بوران " التي تحتوي على تاريخ المنطقة ضمن موضوع قصة حب فردي عندما قام عباس باشا بتفريق التركمان في منطقة الجولاب ووقوع شاب تركماني يدعى دالي بوران في حب فتاة تُدعى ليلى (8)، فجاء قراجه أوغلان إلى الواجهة في هذه الأغاني الشعبية ، بالإضافةً إلى سرد قصة حب كرم من خلال الأغاني الشعبية , ومن الملاحظ أيضاً أن أغاني الحب تتحول أحياناً إلى أغاني عاطفية ، وهذه حال عدد لا بأس من الأغاني الشعبية التي توفر لنا نتائج مهمة حول الحياة الاجتماعية للتركمان مما اقتبسها الباحثون الأتراك (9).وهناك أيضاً العديد من الأغاني الشعبية حول الحروب وأحداث الهجرة والإسكان التي عاشها التركمان في تاريخهم ، بالإضافة إلى نقل هجرات وخبرات التركمان في جنوب الأناضول وعلى جبال طوروس وصحراء الرقة عبر تاريخهم إلى الأجيال القادمة بأغاني شعبية والتي كانت مصدراً للباحثين في التاريخ الشفهي والمحلي (10)
إن كثيراً من عناصر التاريخ الشفهي والمحلي التي حُصِل عليها عن القبائل التركمانية تم جمعها من خلال الأغاني الشعبية والتي من أهم العناصر التي تحتوي على الثقافة الشفهية للتركمان الرحل , فمن خلالها يمكن الوصول إلى كثير من المعلومات حول الحروب التي خاضها التركمان في الماضي الذي ويجعل الحروب الموصوفة في تاريخ التركمان مهمة وحقيقة باعتبار أن السجل المكتوب حولها محدود بسبب اعتمادهم على الثقافة الشفهية , وهذا يعني أنه يمكن كتابة تاريخ كل من القبائل التركمانية في جبال طوروس وصحراء الرقة وريف حلب ومنطقة باير بوجاق بالتفصيل ويجعل البيانات الشفهية استثنائية بالمقارنة مع المصادر المكتوبة الحالية , ومن الحقائق التي يجب أن لا تُنسى أن البيانات اللفظية المتعلقة برهانات الحروب ذات القيم الملحمية يمكن نقلها بطريقة ملحمية مبالغ فيها ، وبالتالي لا ينبغي نسيان الحاجة إلى إخضاعها لدراسات وأبحاث دقيقة.
..........................................................................................................
(8) واحدة من أكثر الأغاني الشعبية التي تدور حول الحب والتي تلقي الضوء على التاريخ الفردي والاجتماعي هي الرثاء التي اقتبسها يالكن من هضبة موسى بوزلدوغون في 15 يوليو 1928. في الحادثة التي رواها تركماني يدعى مافي علي آغا ، تم نقل الأحداث التي مرت بها سيدة تدعى شفاء هانم، زوجة شاكر أفندي. أحب شفاء شابًا تركمانيًا ، لكنه لم يستطع الاقتراب منه. عندئذ تفتري عليه شفاء هانم ويحكم على الشاب بالإعدام. على الرغم من أن الناس في المخيم يعرفون أن الشاب بريء ، إلا أنهم لم يتمكنوا من التحدث وافصاح عن الحقيقة ، روى مافي آغا الرثاء واصفا هذا الحدث.
(9) لإعطاء مثال متعلق بالموضوع ؛ قره داغن ياغمورو ، غيجه مادم جامورو ، فاطمنن مماسي صاري بورصا هامورو ، باغن فيرديم اوزوني,جيبك دايمش غوزومه,فاطمنن غوزلرى,بانجار سوكتو اوزومه,باغاه كيرديم هورمايا .
(10) توجد العديد من الأغاني الشعبية عن الحروب وأحداث الهجرة في تاريخ التركمان.
فهناك أغاني شعبية تركمانية حول حروبهم مع قبيلة بني سعيد العربية والتي جرت أحداثها في عام 1860م تشير إلى شخص يُدعى ملا عثمان من قبيلة بايديلي التركمانية والصراع القبلي بين محمد باي (بيك) وقبيلة بني سعيد العربية في عام 1811م وكانت المشكلة التي واجهها الحاكم المسمى جمال محمد باشا مع قبيلة بايديلي التركمانية في أورفا بين عامي 1737 - 1738م موضوعاً لأغنية شعبية تركمانية
وفي حادثة تاريخية أخرى تذكرنا الأغنية الشعبية التي كتبها دادال أوغلو إلى عباس باشا الذي جاء من مصر إلى الإسكندرون ومحاولته الاستيلاء على الأراضي التركمانية
التركمان والعثمانيون في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
لقد ذهبت قبائل بايديلي التركمانية وبعض القبائل الكردية الذين أمروا بإعادة توطينهم في الرقة إلى الأماكن المخصصة لإعادة توطينهم ، حيث قام محافظ دياربكر بتكليف الوزير علي باشا بالتأكد من ذهاب هذه القبائل إلى أماكن إسكانهم ، لأن بعض القبائل التركمانية التي أرادت الاستقرار في هذه المنطقة أبقت الولاية مشغولة للغاية بحوادث السلب والنهب وقطع الطرقات التي تسببت فيها هذه القبائل
وعلى الرغم من أن الحكومة العثمانية لم ترغب في تقديم تنازلات للقبائل التي قاومت الاستيطان في البداية إلا أنها تخلت مع مرور الوقت عن هذه السياسة الصارمة وبدأت في تقديم تنازلات لبعض القبائل والعفو عن أبناء قبائل أفشار الذين استقروا سابقاً في الرقة وسمح لهم بالاستقرار في غازي عنتاب ومرعش مع مراعاة خدماتهم المقدمة للدولة
بدأت العلاقات الإيجابية بين الإمبراطورية العثمانية والتركمان تتغير خلال فترة التأسيس مع لا مركزية الأتراك العثمانيين وتكيفهم مع الحياة المستقرة وتحقيق المثل الأعلى للإمبراطورية ، ووفقاً لذلك يتم تعريف التركمان حول محورين رئيسيين
كان التركمان قبائل بدو يصعب تحصيل الضرائب منهم وبالتالي حاولوا توطينهم وإسكانهم حتى إن استدعت ذلك استعمال القوة , وكان النفي هو إحدى طرق إعادة التوطين الممنهجة في عهد الإمبراطورية العثمانية عندما تراه ضرورياً ، حيث إن الدولة لم تفرض بعض الضرائب على الناس فحسب ، بل أمرت أيضاً الالتزام بالذهاب والاستقرار في الأماكن المحددة عند الضرورة ، أي الذهاب إلى المنفى دون أي اعتراض للحكومة العثمانية المركزية (11)
..........................................................................................
(11) كتاب إسكان العشائر التركمانية في عهد الامبراطورية العثمانية للكاتب جنكيز اورهانلي ترجمة الاستاذ فاروق مصطفى.
منذ القرن السابع عشر شكّل التوطين المنهجي لقبائل البدو إحدى سياسات إعادة التوطين التي اتبعتها الدولة العثمانية , وبينما كان تركمان البدو يتجهون إلى مراعيهم الصيفية ومن ثم العودة إلى مقرهم الشتوي في أماكن أخرى وعند هذه التنقلات كان يحصل إتلاف محاصيل السكان المستقرين في المنطقة وبالتالي كانت تحصل اضطرابات داخلية بين السكان المحليين واالتركمان الرحل بسبب استغلال ضعف إدارة الدولة في بعض الأحيان
وكشفت تحركات تركمان البدو المتجول عن ضرورة إبقائهم تحت سيطرة الدولة من خلال إعادة توطينهم وإسكانهم في المناطق المقررة مسبقاً للإسكان ، حيث استقر في أواخر القرن السابع عشر49 قبيلة من التركمان في مناطق مختلفة من ريف حلب والرقة وريفها
كما يُفهم من سجلات الإسكان أن عدد التركمان الذين استقروا في قرى سنجق حمص بلغ 1066 عائلة ووزعت عليهم 570 هيكتاراً من الأراضي , فعندما نحصي معدل كل عائلة على أنها 7 أفراد بشكل متوسط يتضح أن إجمالي ذلك هو 7462 شخصاً قد استقروا في 36 قرية و 17 قرية صغيرة في سنجق حمص , وبلغ عدد التركمان الذين استقروا في حماة ومعظمهم في قرى ناحية بارين 1532 عائلة وخصص لهم 672 هيكتاراً من الأراضي ويقدر تعداد التركمان في حماة الذين استقروا في 24 قرية و 14 قرية صغيرة بـ 10724 نسمة
حيث إننا نلاحظ من خلال هذا التوطين تفكيك قوة المجتمع وذلك من خلال وضع أشخاص معينين وليس كل أفراد القبيلة وإسكانهم في قرى أو مناطق لا ينتمون إلى قبائل تلك المناطق , وعلى سبيل المثال فقد استقر بعض أبناء قبيلة الأبالو في حمص ، بينما استقر الجزء الآخر منهم في حماة نظراً لأن الأماكن والمناطق الغير مستوطنة تصبح عشاً لقطاع الطرق وتصبح المنطقة غير أمنة أومستقرة , لذلك فقد تم إرسال أوامر صارمة في تاريخ 27 سبتمبر من عام 1720م بنقل القبائل التركمانية من أماكن متفرقة إلى مستوطناتهم الجديدة
يقول خليل آغا : بما أن توطين التركمان كان مهمة صعبة وشاقة للغاية فقد تمت محاولة الاستفادة من رؤساء القبائل التركمانية في هذا الصدد , وعلى سبيل المثال فقد تم تعيين شاهين باي ابن فيرز باي التابع لقبائل بوز قويونلو والذي كان له مكانة عالية ومحترمة جدًا بين قبائل تركمان حلب ، وتم تعينه رئيساً لإعادة التوطين في عام 1693م لأولئك الذين استقروا في الرقة
وتمت الإشارة إلى القبائل التركمانية التي أعيد توطينها في نهاية القرن السابع عشر واحدة تلوى الأخرى في سجل التحرير في حلب بتاريخ 1673م من خلال كتابة الملاحظة فوق أسمائهم وباللون الأحمر
وهناك تعريف آخر للقبائل التركمانية بأنهم عبارة عن مجتمع بدوي ذات خصوصية اجتماعية وثقافية تختلف عن خصوصية سكان المدن والأرياف حيث سيطرت عليهم الثقافة الشفهية والبدوية
ومن منظور التركمان فإنهم يرون بأن العثمانيين وحكومتهم المركزية يحاولون إجبار التركمان على التخلي عن عاداتهم وتقاليدهم التي اعتادوا عليها طوال حياتهم ، ومحاولة العثمانيين الحصول على نصيب من ممتلاكات وإنتاج المحاصيل ومواشي التركمان من خلال الضرائب رغم أنهم ليسوا شركاء في أي من أعمالهم فيما بينهما
حسب الباحث يالكين تعتبر وثيقة الإسكان العثماني عام 1691م خطأً فاصلاً في حياة تاريخ قبائل البيديلي التركمانية في سوريا ، فهذه القبائل والتي تنتسب لنسل يلدزخان هي أحد فروع القبائل التركمانية الأوغوزية العريقة
وحسب ما نقله أجدادنا ومن بعدهم من التراث الشعبي التركماني المتوارث من الأدب والشعر والقصص كقصص دادا قورقوت وغيرها ، فإن تركمان سوريا لقوا المصير المشؤوم عند إسكانهم قسراً في صحراء الرقة ومن ثم في ريف حلب والمناطق الأخرى في سوريا لأنهم تُركوا لمصيرهم المحتوم من صعوبة العيش في تلك المناطق بسبب صعوبة التأقلم من الناحية المعيشية والاجتماعية والتوترات والخلافات مع القبائل العربية والكردية أحياناً بسبب الأراضي , وسوف نذكر لكم بعض الحوادث الموثقة من الأرشيف والوثائق العثمانية وبعض قصص القبائل التركمانية التي هاجرت من أواسط آسيا الوسطى متوجهين نحو الأناضول ومن ثم إلى سوريا والعراق ولبنان وفلسطين قبل وبعد الإسكان
عندما هاجر التركمان في منطقة خراسان في جنوب شرق بحر قزوين إلى بعض مناطق إيران ومن إلى الأناضول بعد هزيمة دولة أكويونلو على يد الدولة العثمانية في حرب (أوتلوق بيلي) , تختار قبائل البيديلي التركمانية من بين التركمان فيرز باي ، أحد أبناء سيد صالح الدين ، كزعيم لهم. اكتسب إسم وحياة فيروز باي ، معنى ملحميًا بين التركمان والقبائل التركمانية الأخرى ، وأصبح قائدًا لكل القبائل التركمانية
عندما هاجر التركمان في القرن الخامس عشر ، من المناطق الداخلية لتركستان واستقروا في منطقة خراسان ، ومن ثم قرروا الهجرة إلى الأناضول في نهاية القرن السادس عشر ، تحت قيادة الزعيم فيرز باي . قسم من قبائل التركمان ، لم يرغبوا في مغادرة وطنهم في خراسان فتركهم فيرز باي ، وغادروا مع بعض الجماعات التركمانية خراسان متجها نحو الأناضول سالكين طرق وجبال وعرة تم ذكرها في الأغاني والموروث الشعبي التركماني ، وصلوا الأناضول وكانت تقدر عدد خيامهم (ما بين 400 و 500 ألف) تحت قيادة فيرز باي ، مع 87000 خيمة ويقال في بعض المصادر الاخرى 84000 خيمة ) ، يقدرون بين 400 و 500 ألف شخص تقريبا ويدخلون الأناضول ويستقرون في منطقة تسمى مقاطعة يني إيل في جنوب يوزغات وسيواس
إن معظم المعلومات التي نقلها الباحثون الأتراك في سياق التاريخ الشفهي والمحلي لايذكرون العثمانيين بشكل إيجابي للغاية من قبل التركمان , وأجمل تفسير لعلاقة التركمان بالعثمانيين هو التفسير الذي قدمه عمر آغا بعد الأغنية الشعبية التي قرأها على الباحث يالكين ، حيث قدم له معلومات تستند إلى التاريخ الشفهي والمحلي عندما طلب منه الباحث يالكين معلومات عن قبيلة قولاش في الأغنية الشعبية فقال : إن القبيلة جاءت من خراسان إلى الأناضول ولكنها اختفت فيما بعد لأنهم لم يتمكنوا من التعايش مع السلاطين العثمانيين
وأعرب يالكين عن أفكاره بشأن هذا الوضع بعبارة : " إذا فكرت في مدى قسوة حكم السلطنة العثمانية للقبائل التركمانية هنا فإنها بلا رحمة أو شفقة وسوف تعرف العلاقة بين الطرفين "
فهذا مثال جيد يشير إلى التوتر في العلاقات بين التركمان والمركز منذ العهد العثماني ، ويعطي عمر آغا مثالاً آخر على حادثة أخبره بها أحد الآباء عن موضوع حدث في السابق ناصحاً أولاده قائلاً : " لا تكن صديقاً للعثمانيين ولا تشتري إلا بعد الرؤية ، ولا تفصحوا أسراركم للنساء " وكان دادال أوغلو أيضاً ضد الإدارة العثمانية مثل العديد من التركمان (12)
ويروي يالكين أغنية شعبية سمعها في قرية قره أوميرلي الواقعة جنوب جبال بينبوغا أنه كان أحد الأسباب التي أدت إلى تدهور العلاقة بين التركمان والإمبراطورية العثمانية هو فرض العثمانيين الضرائب على القبائل التركمانية , وفي هذا السياق نقل التركمان معارضتهم لفرض الضرائب على قبائلهم من خلال الأغاني الشعبية التي كانت من أهم أدوات التاريخ الشفهي والمحلي , كما نقل يالكين عن عمر آغا أيضاً وجهة نظر التركمان حول المسؤولية الضريبية التي فرضها العثمانيون عليهم , ووفقاً لذلك فقد قرأ الرجل المسن قاديرأوغلو قبل أن وافته المنية ما يلي : " البعض يزرع حديقة بالمجرفة ، والبعض يسحب القش بكيس ، والبعض يزرع نبات السندار مرة أخرى ، ولا شيء للدولة من ذلك " كما تم التطرق إلى جهود العثمانيين لتوطين التركمان من أجل الحصول على الضرائب بسهولة أكبر والتي قوبلت بمعارضة شرسة من قبل التركمان.
ذهب الباحث يالكين إلى كثير من القرى الحدودية السورية التركية مثل قرية حمام التركمان والدادات في أقجه قلعة وقرى في منطقة جرابلس مثل قرية طاشلي هويوك وهواهيوك وبلوى ميرخان وقلقوم وجورتان وجكه ونبغه وباب ليمون وعلي منطار القريبة من الحدود السورية التركية في منطقة كيليس بين أعوام 1931-1960م والتقى مع الكثيرين هناك ودوَّن ماسمعه من أحداث تاريخية مرت على المنطقة ، وتحدَّث مع حنيفي آغا من قبيلة بيريلي وعقيل هوجا وداود أوغلو من العشائر التركمانية ، وميجينغن أوغلو محمد من قبيلة بايندير وآخرين ، وحدَّثه خليل آغا عن تاريخ قبيلته أن العثماني أجبرهم على العيش بشكل مستقر ومنعهم من الترحال
وعندما قيل إن بعضهم هاجروا من الرقة إلى المكان الذي أتوا منه فقاطعه قرة حسن أفندي قائلاً: إن بعضهم أقام في الأناضول ومنهم من ذهب إلى بلاد فارس ، وإن قبيلة بايديلي عانت أكثر من غيرها وهذا ما أكَّده خليل آغا
.................................................................................................................
(12) دادال أوغلو شاعر شعبي عارض سياسة الاستيطان في عهد الإمبراطورية العثمانية لتركمان الأناضول.
وقد قال خليل آغا : إن من أهم الزعامات التركمانية وأشهرها في سياق سرد التاريخ الشفهي والمحلي للتركمان هو الزعيم التركماني فيرز باي من قبيلة بايديلي القادرلي (13) وكذلك يعتبر قوجه غانم من قبيلة بايديلي البكمشلي زعيماً قومياً للتركمان في فترة من فترات التاريخ التركماني في المنطقة جولاب الواقع بالقرب من مدينة تل الأبيض
وبعد قرار الإسكان القسري للتركمان من قبل العثمانيين في منطقة الجولاب والبليخ والمناطق الأخرى بحجج مختلفة حصل اختلاف في الآراء بين التركمان حول قبولهم أو رفضهم لقرارات الإسكان ، وحسب الباحث يالكين وعلى لسان العديد من الشخصيات ورؤساء القبائل التركمانية في المنطقة يقول أحمد مصطفى باشا من قبيلة البكمشلي الحاج علي الذي كان يعيش في قرية طاشلي هويوك التابعة لمنطقة جرابلس بأن الزعيم التركماني فيرز باي رفض الامتثال للإسكان القسري لتركمان بايديلي في منطقة البليخ والجولاب بسبب صعوبة التأقلم والاختلاف في الثقافات واللغة مع أبناء تلك المنطقة التي كانت تسكنها قبائل عربية مثل قبيلة العنزة وقبائل بني سعيد وكذلك قبائل كردية مختلفة
ويتابع أحمد مصطفى باشا قوله بأن فيرز باي امتعظ من الوضع السائد بين القبائل التركمانية التركمانية من جهة والتركمانية العربية من جهة أخرى في المنطقة بعد الكثير من القرارات التي اتخذتها السلطة العثمانية المركزية وخاصة أنه كان يرى القرار القسري للإسكان منافٍ للحريات والتنقل للقبائل التركمانية الرحل التي تتنقل من منطقة إلى أخرى من أجل مواشيهم من ناحية , ومن ناحية أخرى فإن الحياة المستقرة لا تتماشى مع حياة البداوة والرحل كما عاشها الآباء والأجداد من أسلوب حياة بدوية متنقلة , ومن طرف آخر كان هناك قسم من قبائل بايديلي التركمانية بزعامة قوجه غانم البكمشلي يرون بضرورة امتثالهم لفرمان الإسكان العثماني وإن كانت قسرية وذلك لعدم التصادم مع الحكومة العثمانية المركزية من جهة ، وكلك التخلص من حياة البداوة والترحال من جهة أخرى.
.....................................................................................................
(13) فيرز باي زعيم تركمان بيديلي ، الذي طلب منه لإعادة التوطين القسري في الرقة ، حيث الاسكان والعيش في صحراء الرقة حيث رجع إلى أتى منه إيران مع قبائل بعض قبائل بيديلي التي كانت تابعة لها.
(14) قوجه غانم من قبيلة بايديلي البكمشلي فخد حاج علي زعيماً قومياً للتركمان في فترة من فترات التاريخ التركماني في المنطقة جولاب بعد رجوع فيرز باي الى خراسان.
يقول الباحث يالكين : إن القبائل التركمانية التي لم ترفض قرار الإسكان قد مُنِحوا أراضي خصبة للزراعة في منطقة الجولاب والبليخ على ضفاف النهر، وكان فرسان التركمان قد مارسوا دورهم في حماية القوافل التجارية وقوافل الحج القادمة من إسطنبول والمدن الأخرى الذاهبة إلى بلاد الحجاز وبلاد الشام واليمن ومصر ، كما أن الفرسان من جميع قبائل البايديلي التركمانية تؤدي واجبها الوطني والقومي في حماية القوافل التجارية والإنسانية وغيرها ، وتؤدب كل من يخرج عن القانون من قطاع الطرق الذين يمارسون السلب والنهب
ويقول خليل آغا حول إصرار الزعيم التركماني فيرز باي بعدم قبول قرار الإسكان القسري العثماني رغم محاولة الكثير من رؤساء القبائل التركمانية الأخرى
عندما اجتمعوا بالقرب من منطقة عين العروس على ضفاف نهر البليخ حثوا فيرز باي بقبول قرار الإسكان وعدم الرجوع إلى بلاد الخراسان التي قدموا منها إلى الأناضول ، واحتدم النقاش بين رؤساء القبائل التركمانية في ذلك الاجتماع حول قبول أو رفض قرار الإسكان العثماني ولكن فيرز باي قد أبى وأصر على الرحيل من منطقة الجولاب وعدم قبول قرار الإسكان بالرغم من إصرار وإلحاح جميع رؤساء القبائل التركمانية عليه بعدم الرحيل وعدم تركهم لمصيرهم بين القبائل الأخرى من غير التركمان حتى بلغت به الحال بأن انتزع أحد أطفاله الصغار من السرير وضرب برقبته على غنداق الفرس أي دعسة الخيال على سرج الحصان معبراً أن الأمر لارجعة فيه ، ثم بعد ذلك أمر أسرته وقبيلته بالرحيل فالتحق به قسم من أسرته وجزء من قبيلته القادرلية وساروا نحو الشرق حتى استقروا في الخراسان بعد أن مروا بالعراق لأخذ الطاعة من شاه فارس ، وبقي القسم الآخر من القبائل التركمانية منها قبائل بكمشلي و قره شيخلي وقادرلي وعربلي وقرقين وغوناج وحيدرلي وشرق إيفلي وغيرهم من القبائل بايديلي التركمانية الذين اجتمعوا تحت قيادة وزعامة قوجه غانم البكمشلي الذين لم يرحلوا معه (15).
..................................................................................................................
(15) الهيكل السياسي والاجتماعي والثقافي لقبيلة بيديلي من الماضي إلى الحاضر للباحث محمد نوري شاندا
زعامة قوجه غانم للقبائل التركمانية والخلافات بين قبائل المنطقة
في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
من المعلوم أن العلاقات بين التركمان مع محيطهم لم تكن جيدة وخاصة مع القبائل العربية التي كانت تعيش في المنطقة ، ومن الملفت للنظر أن السبب الرئيسي للخلافات والتوترات التي حصلت بين القبائل التركمانية والقبائل العربية هو الإسكان وتقسيم الأراضي في تلك المنطقة بالإضافة إلى الاختلافات الثقافية بين الهيكلين العرقيين كعامل حاسم
يقول الباحث يالكين : بقرار إسكان (المنفى) الصادر في 21 كانون الثاني (يناير) 1691 ، قرر التركمان الانتقال إلى المنطقة الواقعة بين أورفة والرقة في جولاب على ضفاف نهر البليخ ، حيث تسكن القبائل العربية المهجورة التي لا تعترف بسلطة الدولة
بدأت عملية الإسكان القسري للقبائل البيديلي التركمانية مع قاضي زاده حسين باشا وانتهت مع يوسف باشا. وتم إعدام بعض رجال القبائل التركمانية الذين عارضوا الهجرة والإسكان القسري، ووقعت وفيات جماعية كثيرة بسبب ظروف الشتاء القاسية في مناطق الإسكان، روى الشاعر الشعبي دادام أوغلو ، الأحداث في الكثير من أبياته الشعرية التي توارثها الأجيال الى اليوم
تم نفي حوالي ثلاثة أرباع من القبائل التركمانية الذين بقوا في منطقة غازي عنتاب إلى الرقة في عهد السلطان سليمان الثاني بعد هدم وحرق حقول ومنازلهم ، بسبب المشاكل التي كانت تحصل بين هذه القبائل وسكان المنطقة . من المعروف أن حدث المنفى هذا حدثت في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر ,هحيث يعيش أسلاف هذه القبائل في منطقة غازي عنتاب في إصلاحية ، قرقاميش ، نيزيب ، أوغوز إيلي ، بيرجيك ، بوزوفا ، هالفيتي ، سوروج في شانلي أورفا ، بيسني في أدي يامان ، حاجي بيكتاش في نيفشهير ، ويسكنون في قرى أشغي باراق و يوقاري باراق و بيل باراق
بعد عودة فيرز باي مع بعض من أتباعه الى خراسان , خشي العثمانيون من أن تتسبب الخيام القبائل التركمانية المتبقية والبالغ عددهم 40.000 في مشاكل مع جيرانهم من القبائل العربية والكردية . لم تدم طويلا حتى اشتبك القبائل التركمانية مرة أخرى مع قبائل الطي وقبائل الموالي وميلان العربية وانتصروا عليهم. هنا القبائل التركمانية أيضًا استمروا في التمرد ضد سلطة العثمانية وكانت ذروة التمرد وصلت عندما ذهب بدرأوغلو ، أحد قادة التركمان ، إلى بيرجيك من أجل قضية ، أهانه والي بيرجيك وقتلوه ، ونتيجة لذلك ، أغار القبائل التركمانية على بيرجيك. ومن ثم تم تكليف المصري عباس باشا فيما بعد بالتعامل مع القبائل التركمانية.
بعد أن استقر التركمان في منطقة الجولاب واستوطنوها وأنشؤوا قراهم وبلداتهم في هذه المنطقة والمناطق الأخرى جرت غارات وثارات والسلب والنهب بين قبائل بايديلي التركمانية وغيرهم من القبائل العربية والكردية في تلك المنطقة ، وكذلك جرت بينهم دسائس ومؤامرات ومن ثم ولائم السلام والصلح وغيرها
ويؤكد أحمد مصطفى باشا كلام خليل آغا بأن الزعيم التركماني قوجه غانم كان متزوجاً من زوجته الخاتون والتي كانت قصيرة القامة ومعروفة باسم كوجك خاتون وله منها أربعة أبناء أكبرهم محمد و جلبي وأحمد وعبد الإله أو عبد الله ، وفي إحدى ليالي الشتاء الطويلة رأى الزعيم التركماني قوجه غانم رؤيا في المنام أن له أربعة أشجار كلها غير مثمرة فاندهش وتعجب منها كثيراً وعندما استيقظ في الصباح قص رؤياه لزوجته وسأل عن تأويلها فأوَّلوها على أن الأشجار الأربعة الغير مثمرة ترمز إلى أولاده الأربعة ، وهذا مما حمله على التفكير بالزواج من امرأة ثانية وبمشورة من زوجته كوجك خاتون التي كانت غير قادرة على الإنجاب بسبب كبر سنها ، فبدأت كوجك خاتون بنفسها بالبحث عن امرأة تليق بزوجها الزعيم قوجه غانم ، فوجدت له خطيبة مناسبة من قبيلة جيس العربية وذلك لتوطيد العلاقة بهذه المصاهرة بين القبائل التركمانية والقبائل العربية وطمعاً في ذرية صالحة ، لأن الزعيم التركماني قوجه غانم خشي كثيراً من الرؤيا التي رأها ، وبهذا الزواج من قبيلة الجيس أنجبت له زوجته علي (حاج علي ) ابن قوجه غانم (15)
.......................................................................................................
(15) الزعيم حاج علي إبن قوجه غانم البكمشلي الذي اصبح فيما بعد زعيما لقبائل التركمان في منطقة شرق الفرات وريف حلب الشمالي مازال احفادة يعيشون في أكثر من عشرين قرية تركمانية في مناطق جرابلس والباب ومنبج وإعزاز والسفيرة وإدلب.
يقول محمد باشا أحد وجهاء التركمان من قبيلة البكمشلي الحاج علي من قرية هواهيوك التابعة لمنطقة الباب : عندما تصدر قوجه غانم الزعامة مُنِح أبناؤه لأول مرة وعلى رأسهم الابن الأكبر محمد لقب الأمير محمد أسوة بأمراء القبائل العربية التي كانوا من حولهم , فكان قوجه غانم رجلاً عظيماً وسيد قومه وزعيمهم ، فمن لايملك الحلم والفطنة لايستطيع أن يقود القوم ويجنبهم المآسي ويتحمل تبعات كل أمورالقبيلة من محاسنها ومساوئها
توفي قوجه غانم رحمه الله تعالى ودفن في منطقة الجولاب ولازالت هناك تلة إلى الآن في المنطقة التي تقع بين بلدة سلوك وبلدة حمام التركمان جنوب العزيزية يطلق عليها قبر قوج
ويعتقد التركمان من قبيلة البكمشلي بأن جدهم قوجه غانم قد دفن فيها لذلك أُطلِق عليها قبر قوج أي قبر قوجه ، ومع مرور الزمن أصبحت تسمى غابرغوج
ولعل الرؤيا التي رآها الزعيم التركماني قوجه غانم في المنام قد ألهمته قدراً مختلفاً على قومه حيث ذاع صيته وغزواته وشجاعته وكرمه بين القبائل التركمانية والعربية والكردية
حادثة مقتل الحكمدار العثماني من قبل تركمان الجولاب وتشتت التركمان فيما بعد
في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
وحسب الباحث يالكين الذي التقى مع كثير من أبناء المنطقة عند زيارته لهم لإتمام بحثه فيستمع من محمد مصطفى باشا قصة الحكمدارالعثماني وزيارته للقبائل التركمانية في مرابعهم وحدوث الفتنة والدسائس بين التركمان والحكمدار العثماني الذي أشار على القوم بخطبة إحدى بنات التركمان الجميلات للزواج منها والتي كانت تدعى هدلة , ويتابع محمد مصطفى باشا حديثه حول الحادثة ويشرح تفاصيلها بأن الفتاة المطلوبة للخطبة هدلة في الحقيقة لم تكن فتاة أو امرأة عزباء وإنما كانت زوجة لأحدهم ومن أجمل نسائهم , وعندما قام الحكمدار العثماني بزيارة مرابع التركمان استُقبِل بكل حفاوة وكرم ، وقبل أن ينصرف طلب القرب منهم وذلك بطلب يد فتاة تركمانية للزواج ، وعلى حسب العادات والتقاليد التركمانية طلب القرب والزواج لا ضير في ذلك ولا علة ، فنساؤهم أمهات للأمة التركية وقد أنجبن السلاطين والعظماء ولكن هذا الأمر بدا كالصاعقة عليهم حيث كانت الفتاة المطلوبة متزوجة أصلاً , فطلب أبناء قوجه غانم وكبار القوم من الحكمدار العثماني أن يمنحهم فرصة ووقتاً لتجهيزها في عرس يليق به وبهم ، فأمهلهم أسبوعاً ليجهزوا الاحتفال والعروس هدلة ، وبعدها انصرف الحكمدار العثماني وبقي رجال التركمان في ذهول وحيرة من أمرهم ، طبعاً وكان في قيادة القبيلة بعد وفاة قوجه غانم ابنه الأمير محمد ، فاجتمع مع كبار قومه أولاً ومن ثم مع إخوته عبد الإله و جلبي ولم يحضر أحمد لأنه كان إنساناً بسيطاً ودرويشاً وكان يطلق عليه دالي أحمد , فاجتمعوا لإيجاد حل لطلب الحكمدار العثماني وتداعيات تلك الحلول عليهم وعلى قبيلتهم ، ولكن لم يدعُ أخاه علياً للاجتماع لصغر سنه أو لأنه كان أخاً غير شقيق لهم والذي كان يقيم مع والدته التي كانت من قبيلة الجيس العربية , فجلس الإخوة الثلاث في الخربة للتشاور والتي تسمى إلى اليوم خربة المشاورية واعتبروا طلب الحكمدار العثماني لهدلة هو تحدٍ سافر لهم ولقبيلتهم ، ولا يوجد أي حل وسط لهذه المشكلة الكبيرة ، فعقدوا النية والعزم على استدراج الحكمدار وقتله من أجل الخلاص منه ومن طلبه الغير قابل للتحقيق قطعاً , وبعد أن اتفقوا على الخروج من هذه الأزمة بأقل الخسائر لهم ولقبيلتهم أعدوا العدة وتجهزوا للرحيل بعد قتلهم الحكمدار عند قدومه إليهم ، ولما انتهت مهلة الأسبوع وحان الموعد حضر الحكمدار العثماني وأتباعه لأخذ الفتاة المطلوبة والزواج منها حسب العادات والتقاليد التي كانت سائدة هناك في تلك الفترة
طبعاً كان هناك البعض من أتباع الحكمدار ومن يدور في فلكهم من أبناء المنطقة هم الذين جرُّوه إلى هذه الفتنة والمصيبة فكذبوا عليه ولم يخبروه بأن الفتاة المطلوبة متزوجة من أحد أبناء القبيلة ، وإنما أخبروه فقط بأن هناك فتاة جميلة اسمها هدلة ، لذلك طلب الحكمدار يدها والزواج منها ظناً منه على أنها فتاة غير متزوجة ، وكذلك لم يوضح الإخوة أبناء قوجه غانم الأمر لحكمدار ظناً منهم أنه تحدٍ لهم لما شاع عنهم من الرجولة والبأس في القتال
جرت حادثة أليمة بالحكمدار بعد أن غُرر به من قبل أتباعه ومن قبل الخونة من أبناء المنطقة حوله الذين كانوا يريدون زرع الفتنة والدسيسة بين أبناء القبيلة ، فكانوا سبباً في مقتل الحكمدار
وبعد هذه الحادثة الأليمة ترك القسم الأكبر من أبناء القبيلة المنطقة وبقي الضعفاء منهم وتركوا وراءهم لغزاً يحميهم من بطش السلطة الحاكمة في تلك الفترة
يتابع محمد مصطفى باشا حديثه بتفسير لغز الحمامات الثلاث ويؤيده خليل آغا وكذلك أحمد عيسى من تركمان تل الأبيض قرية حمام التركمان الذي يعرف الكثير من الموروث الشعبي التركماني وتاريخ الهجرات وإسكان قبائل بايديلي التركمانية في المنطقة قائلاً : لقد ربطوا جرواً قرب سلة ووضعوا تحتها ثلاث حمامات حيث الأولى كاملة الريش وهي كناية عن سادة القوم ، والثانية مقصوصة الجناحين وهي كناية عن بقية القوم القادرين على الهروب ، والثالثة منتوفة الريش وهي كناية عن الضعفاء الذين بقوا تحت رحمة المنتقم ، وبالفعل حضرت حملة تأديبية ووجدوا من بقي منهم فاصطحبوهم إلى خيمة الإمارة لأبناء قوجه غانم ووجدوا الجرو والسلة فدعوا بالسلة فطارت الحمامة كاملة الريش وأخذت مقصوصة الجناحين بالهروب بين الجري والطيران وبقيت المنتوفة الريش والجرو بقربها , وفُسّرت بقية اللغز بأنهم ضعفاء القوم الذين لاطاقة لهم أن يأخذوا بجريرة الأسياد
فطلب مقام الباب العالي العثماني في أستانة حضور قادة القبائل التركمانية أو من ينوب عنهم , وكذلك الذين يمارسون السلب والنهب وقطع الطرق وآخرها قتل مندوبه في المنطقة الحكمدار(16) لمحاسبتهم وحتى قطع رأسهم قصاصاً إذا اقتضى الأمر,وهنا يبدأ تاريخ جديد للقبيلة مع مصيرهم المحتوم والمجهول وتبدأ المشاورات بين وجهاء وأبناء القبيلة عمن سيذهب لمقابلة مقام الباب العالي الذي يريد محاسبتهم ، فخاف الجميع من قطع رؤوسهم أو سجنهم هناك ، وطرح الإخوة فكرة إرسال علي ( الحاج علي ) الأخ الأصغر بينهم لمقابلة مقام الباب العالي العثماني ، وعندما استشاروا علياً بذلك وافق فوراً وبدون أي تردد وأنه لن يخالف رأي وجهاء القبيلة ، وكذلك بدون معرفته بالمصير المجهول الذي ينتظره ، لأن الإخوة الأربعة كانوا على دراية بأن من يذهب لمقابلة مقام الباب العالي ربما سوف يُحكَم عليه بقطع رأسه أو سجنه
وهناك بعض الروايات تقول بأن علياً كان على دراية بمصيره عند ذهابه إلى حضرة مقام الباب العالي في أستانة من أجل أن يلتمس عذراً لأهله ولقبيلته ويُذكَر أنه حمل كفنه معه ، وفي ذلك كناية بأنه كان يعلم بمصيره إذا لم يستطع إقناع مقام الباب العالي أو لم تُقبَل حجته في الدفاع عن إخوانه وقبيلته , وبالرغم من صغر سنه وشجاعته بين إخوته وأبناء قبيلته إلا أنه لم يتردد لحظة بالذهاب إلى أي مكان يُطلَب منه ، يتابع أحد وجهاء التركمان من ريف حلب الشمالي قرية بيلس أحمد عيسى عيسى حديثه عن شجاعة وبطولة جدهم الحاج علي الذي ينحدر من نفس السلالة : اشترط علي تجهيز خمسين فارساً من فرسانه الأشاوس وبلباس موحَّد للدلالة على النظام وحسن السيرة لفرسانه ولقبيلته وذلك لأجل السفر إلى مقابلة الحاكم الباب العالي العثماني الذي طلب حضور قادة التركمان الذين غدروا بالحكمدار وقتلوه , وعند وصوله إلى مقام الباب العالي العثماني أعجب الجميع بما رأوه من سير فرسان التركمان المنظَّم بقيادة علي بن قوجه غانم ، فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن القبيلة التي ينتمي إليها الفرسان الخمسون ليسوا بقطاع للطرق أو أصحاب السوابق من القتل والنهب في المنطقة التي يعيشون فيها
......................................................................................................
(16)الحكمدار- حاكم الولاية، أو الوالي ولقبه «الباشا»، تبعًا للحكومة المركزية في الآستانة، في حين كان حاكم السنجق، أو «الحكمدار» ولقبه «البك»، تابعًا للباشا، ويساعده ديوان و«صوباشي»، أي ضابط أمن؛ وكان حاكم الناحية، ولقبه «الآغا» تابعًا للبك، وكان على رئس كل حي أو حارة «مختار» تابع للآغا.
أُعجب مقام الباب العالي بما رآه وطلب من قائد الفرسان أن يحضر إليه ، فحضر علي أمام مقامه وعليه من الصمود الهائل والإرادة الصلبة ما يفوق الوصف ، فكان برباطة جأشه وقوة عزيمته جيشاً لا يقهر
قدم حاكم الباب العالي شكره لعلي على مجيئه بالفرسان الذين قدموا صورة رائعة للنظام وحسن الأخلاق وسأله : هل تعلم لماذا طلبت قدومكم ؟ فردَّ علي دون تردد : لا , لم أعرف سبب طلبكم هذا ، ولكن نحن مستعدون بكل الأحوال ولكل الاحتمالات , رؤوسنا فداء لكم وإننا فخورون بالامتثال أمامكم , فردَّ حاكم الباب العالي : إننا طلبنا قدومكم لقطع رأس من يأتي من قبيلتكم انتقاماً لمقتل الحكمدار ، طبعاً بهذا التهديد والتهويل لم تتغير رباطة جأش علي ولم تتأثر شجاعته لأنه كان واثقاً من نفسه وحكمته وحنكته , فطلب حاكم الباب العالي منه أن يشرح له كيفية مقتل الحكمدار ويفسر له الألغاز التي جرت قبل وبعد مقتله ، فشرح علي له بأن الجرو يدل كناية عن فعل مشين ارتكبه الحكمدار وذلك بطلبه إحدى بنات القبيلة وهي متزوجة ، فانزعج أبناء القبيلة وأخذهم الغضب من طلب الحكمدار من فتاة تركمانية دون السؤال عنها أولاً ، وبادروا إلى رسم خطة الانتقام منه دون تردد لأنهم إن لم يفعلوا ذلك لكان الحكمدارأعطى إيعازاً بإقامة العرس والزواج من هدلة التي هي زوجة أحد أمراء التركمان , عندئذ تفهم حاكم الباب العالي تداعيات طلب الحكمدار الزواج من سيدة متزوجة ، كما تفهم الوضع السائد هناك وأعجب كثيراً برباطة جأش علي وسرده للعملومات دون خوف أو وجل ، وقام حاكم الباب العالي بإكرامه لأن مَكْرُمَة الضيف خصلة حميدة من مكارم الجود والأخلاق الإسلامية ، كما أنها تدل على سماحة النَّفس وكرم الطبع وإيثار للآخرين وتدل على الشهامة والمروة وإيمان بما عند الله تعالى من العِوض والفضل ، وأعطى حاكم الباب العالي لعليٍّ لقب الباشا ، وهو لقب كان لأول مرة يُعطى لوجهاء القبائل التركمانية الرحل
يقول المسن محمد مصطفى باشا : إن علياً أبدى من الصمود الهائل والإرادة الصلبة ما يفوق الوصف ، فكان برباطة جأشه وقوة عزيمته جيشاً لا يُقهر حتى أُعجب حاكم الباب العالي بما رآه منه ومن فرسانه ، حقاً إن أكثر اللحظات تأثيراً في شخصية القائد العاطفية وأشد المواقف هياجاً للمرء وأقوى درجات الشجاعة وعدم الخوف من المصير المحتوم هو ذلك المنظر الذي تراه فيه مناضلاً يستعصي على التماسك وتظهر رباطة الجأش أمام مقام يمكن أن يُصدِر حكم الإعدام بقطع رأسه ، فقد رأينا كثيراً من الأبطال يتقدمون إلى حبل المشنقة بثبات ورجولة دون أن تدمع لهم عين أو يرفَّ لهم جفن
يقول خليل آغا : لم يكن هناك بين أبناء قبيلته والقبائل التركمانية الأخرى من أمثال علي ابن قوجه غانم الذي تسابق إلى الموت وضرب من أروع الأمثلة في البطولة والفداء بالنفس ، فكان شعاره في الحياة أن اجعلوا من أجسامنا جسراً للعبور إلى الحياة الأفضل ، فتغلبواعلى تجاوز المراحل الصعبة التي مرت بها القبائل التركمانية في صحراء الرقة بكفاءة ونجاح ، وأعطى علي دروساً للجميع في عصره بما فيهم إخوته الأربعة من زوجة والده الأولى في قهر الصعاب والثبات على المبدأ حتى الموت وبكل فخر ورباطة جأش لا نظير لها , وبعد أن عاد علي ابن قوجه غانم إلى دياره استخلصت القبيلة دون الأسياد وخاصة الأمير محمد وأبناؤه بالانتقال من منطقة الجولاب والعيش في ريف حلب على ضفاف نهر الساجور من منطقة جرابلس حيث أبدوا ولاءهم لحاكم الباب العالي في أستانه ، هذا وقد شارك علي في الكثير من المعارك والفتوحات ومنها مشاركته في فتح ڤينَّا
يقول محمد مصطفى باشا أحد وجهاء التركمان من قرية هواهيوك التابعة لمنطقة الباب : من المعلوم أن علياً لم يذهب إلى الأراضي المقدسة في الحجاز ولم يحج قط , ولكن أصبح يكنى بالحاج علي بعد زيارته لمقام الباب العالي في أستانة وأصبح من ينتسب له من أحفاده وذريته فيما بعد بأولاد الحاج علي من قبيلة البكمشلي التركمانية, وطبعاً لا بد من الذكر هنا أن إخوة علي الأربعة قد أخبروا والدة علي بأنه قد ذهب إلى أداء مناسك الحج وزيارة الأراضي المقدسة ولم يخبروها بأنه قد ذهب إلى مقابلة حاكم الباب العالي في أستانة , حيث يمكن أن يكون مصيره قطع رأسه كي لاتخاف أو تحزن من سوء العاقبة والمصير المحتوم الذي ينتظر ابنها هناك ، ولا زالت قرية ( بلوى ميرخان ) شرقي حمام التركمان على ضفاف نهر البليخ والراجح أن علياً هو من أطلق عليها هذا الاسم والتي كانت محل إقامته أثناء ماحل بأهلها هذا البلاء بعد مقتل الحكمدار , ولما انتقلوا إلى منطقة جرابلس وإسكانهم هناك سميت قريتهم لاحقاً باسم ( بلوى ميرخان ) ومن ثم تغيَّر اسمها إلى سلوى من قبل السلطات السورية التي عرَّبت وغيَّرت أسماء القرى التركمانية إلى أسماء عربية
إمارة الحاج علي وأحفاده في منطقة جرابلس في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
يقول أحمد عيسى عيسى أحد وجهاء التركمان في المنطقة : حسب دراسات يالكين فإنه لم تنته سيرة التركمان على ضفاف الجولاب بهذا الأمر فقد اصطحب الحاج علي ابن قوجه غانم معه قسماً من قبيلته فأسَّس إمارة خاصة به في منطقة جرابلس ومن ثم كوجك غانم ابن الحاج علي الذي كان لديه ثلاثة أولاد وهم : الأمير محمد وأحفاده علي آغا و قاسم آغا الذي من أولاده أيوب الصادق ومن أحفاده محمد باشا ومصطفى باشا وأولاده ( كال علو وكال محمد وكال خليل وحاج أحمد ومامق باي وحاج زكي وإبراهيم آغا ومحمود آغا وجاسم آغا ) وابن كوجك غانم الثاني هو محمود باي وابنه الثالث جعفر باي في قرية كربجلي حيث عاشوا ضمن قرى كثيرة ما زالت قائمة إلى يومنا هذا
ولقد أسس أحفاد كوجك غانم في هذه المنطقة قرى وبلدات وانتشروا فيها ومارسوا الزراعة وتربية المواشي ومنهم مصطفى باشا ابن أيوب الصادق الذي أصبح شيخاً لمشايخ التركمان ومن بعده استلم مشيخة التركمان ابنه الأكبركال علو , ثم انتقلت المشيخة بعد وفاته إلى أخيه كال محمد ومن ثم إلى ابنه الحاج نعسان آغا الذين كان لهم الفضل في توحيد كلمة التركمان وجعلها عالية خفَّاقة في كافة المحافل ، حيث عملوا في رص صفوف التركمان من النهر إلى البحر ومن أقصى شمال سوريا إلى الجولان السوري المحتل , حيث كان الحاج نعسان آغان ينتقل ويزور كافة القرى والقبائل التركمانية دون التفرقة بينهم ويقدم لهم المشورة ويعمل على إصلاح ذات البين , ومن أولاد مصطفى باشا أيضاً نامق أو مامق باي الذي كان له الفضل في تخطيط وتأسيس مدينة عفرين عندما كان قائماً للمقام في منطقة إعزاز ، فقد كانت مدينة عفرين قرية صغيرة آنذاك , وقُدِّم له نيشان ووسام من السلطان عبد الحميد الثاني لقاء خدماته في الإمبراطورية العثمانية ، ومضافاتهم وديوانهم مازالت قائمة إلى يومنا هذا في قرية بلوى ميرخان منطقة جرابلس والتي سوف نتحدث عنها لاحقاً وبشكل مفصَّل
وبعد فترة رجع قسم من قبيلة البكميشلي إلى منطقة الجولاب حيث مكان إسكانهم في المرة الأولى ، وذلك بعد العفو عنهم نتيجة تداعيات مقتل الحكمدار في الجولاب وسكنوا في قرية الديمشلية ولعل اسمها يوحي عن البكمشلية
وعند زيارة يالكين إلى منطقة تل الأبيض التقى مع بوزان الجمعة أحد وجهاء التركمان ومختار عين العروس في قرية حمام التركمان زمن الانتداب الفرنسي والذي تركها فيما بعد وذلك بسبب توجهه القومي وامتعاضه من سياسة التمييز والتضييق على أبناء المنطقة من الحكام المحليين ، وبعد تركه مخترة عين العروس أنشأ قريته العزيزية وكان له ديوان ومضافة فيها
يسرد بوزان الجمعة حديثه قائلاً : بعد الأحداث الكبيرة التي حصلت من قتل الحكمدار وذهاب الحاج علي إلى أستانة لمقابلة مقام الباب العالي بما حدث ، ومن ثم معرفته بأن إخوته كانوا على دراية من إمكانية صدور حكم الإعدام بحقه قبل ذهابه ، فأدى ذلك إلى انزعاج الحاج علي من إخوته وفقده الثقة بهم ، لذلك قرر الرحيل والابتعاد عنهم
وهنا بدت أسباب الضعف في سلطة القبيلة والعشائرية بشكل عام وانحسار وضعف قبيلة البكمشلي بشكل خاص ، وعند ذكر قبيلة البكمشلي يُذكَر أحفاد قوجه غانم من أبنائه الخمسة كنسب صريح , وأما بقية البكمشلي فيُطلق عليهم الياشلي وهم بكمشلي من غير أبناء قوجه غانم ، ويعود سبب ذلك إلى عدم المعرفة بالحوادث التاريخية التي أدت إلى انقسام القبائل التركمانية ومنها البكمشلي ، فالحاج علي وأحفاده من بعده هم من تصدروا زعامة القبيلة والتركمان عامة ، وأصبح الحاج علي علماً ورمزاً قومياً للأجيال من بعده
توزُّع وانتشار قبيلة البكمشلي التركمانية في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
يذكر الباحث يالكين أن قسماً منهم سكنوا في قرية احتيملات وبلدة تركمان بارح وغيرها من القرى في ريف حلب والرقة ، حيث يقرُّون بأنهم بكمشلية ولكن لايذكرون العائلة كالمحمدلية ودالي أحمدلية والجلبية وألاوية , وكل من كان يحمل نسباً صريحاً لقوجه غانم هم من أبنائه الخمسة الذين يعيشون الآن في قرى وأرياف حلب ، وعلى إثر هذه الحادثة والحوادث الأخرى التي حصلت في تلك الفترات من التاريخ تفرقت القبائل وخاصة البكمشلية بقيادة قوجه غانم وأولاده من بعده الذين بقوا في الجولاب وذلك بعد رحيل فيرز باي إلى الخراسان
يجدر بالذكر أن قسماً من التركمان من أحفاد البكمشلي (17) يعيشون في ريف إدلب وريف حلب في قرى بلوى ميرخان وطاشلي هيوك وهوا هيوك ونبغه وقانلي قوي وحليصه وميرزا وكربجلي وبيلس وأغ داش ويغمجه وتركمان بارح وبلدة مارع والقرى الصغيرة حولها وقرية احتيملات والتي خرج منها أبطال خاضوا معارك العزة والشرف ضد الطغاة في ثورة الحرية والكرامة السورية من أمثال المجاهد عبد القادر صالح الملقب بـ ( الحاج مارع ) ويوجد أيضاً أحفاد البكمشلي في منطقة السفيرة ويَذكرون بنسبهم أنهم من أبناء الأمير محمد ابن قوجه غانم وأن أجدادهم قد سكنوا في السفيرة بعد حادثة جرت في منطقة الجولاب ويُلقبون في تلك المنطقة بالباشات أو الباشاوات ويوجد قسم من أحفاد قبيلة البكمشلي في إدلب وريفها
...............................................................................................................
(17) قبيلة البكمشلي أحفاد يلدزخان جدهم أوغوزخان من أشهر قبائل التركمان في حلب ومن فروعها: حيدرلي ,تشلبي ,حاج علي
وبعد حادثة مقتل الحكمدار ترك أغلب العائلات التابعة لقبيلة البكمشلي هذه المنطقة وتوجهوا نحومنطقة جرابلس وسكنوا في قراها وبقي بعض العائلات من قبيلة العربلي في الجولاب على ضفاف نهر البليخ في قرية حمام التركمان الشمالي كانت تسمى قديماً قرية الحسن العلي وكانت حمام التركمان الجنوبي تُدعى قرية الشواخ , ومن العائلات التركمانية التي بقيت في هذه المنطقة طوال تلك الفترة الباجيرات الملا والي والمرادات الدامات القرقر من قبيلة القره شيخلي وكذلك والجتى في مزرعة بلال الجتى إيلبايلي أو الباجلي الذين لهم صلة قرابة مع أبناء عمومتهم في قرية عرب عزة في منطقة جرابلس والمهدي والدامان وكبار السن من السمعو والكجل من الدال أحمدلي البكمشلي والدادات بوز گيج الذين يسكنون في قرية الدادات ومازالوا محافظين على لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم التركمانية
يقول الباحث يالكين : على مر الزمان رجال يأتي بهم التاريخ ورجال يصنعون التاريخ ، فكثيرون ممن يأتي بهم التاريخ يذهبون دون أن يبقى لهم أثر في تاريخ أمتهم ويصبحون من المنسيين ، وأما الرجال الذين صنعوا التاريخ فيسجلون أسماءهم بأحرف من الذهب على صفحات تاريخ بلدانهم ومجتمعاتهم ، والتاريخ الإنساني مليء من مثل هذه الشخصيات فيعيشون في ذاكرة الأجيال على مرِّ العصور ويخلَّدون في ذاكرة أوطانهم ومجتمعاتهم
فالتاريخ لايكتب بالنوايا أو العواطف الجياشة أوالشعارات الرنانة ، ولاتصنعه المواقف المترددة أوالمرتعشة ، وإنما يُكتَب ويُصنَع بمواقف الرجال الذين يثبتون على الحق في اللحظات المصيرية ، نعم ولايفرِّطون في المبادئ والثوابت الوطنية والقومية مهما كان حجم التحديات ، لأنهم يدركون أن عواقب التفريط باهظة الثمن وأن التهاون قد يجعل الأوطان لقمة سائغة للطامعين وأصحاب المصالح الذين لايتورعون عن التقلب في مواقفهم مابين أقصى اليمين وأقصى اليسار في لمح البصر خدمة لمصالحهم الشخصية الضيِّقة
نبذة عن سيرة الحاج نعسان آغا بن كال محمد مصطفى باشا
شيخ مشايخ التركمان رحمه الله تعالى
ذكر الحاج مختار كال محمد أحد وجهاء التركمان الذين عاصروا فترة نهاية الإمبراطورية العثمانية وفترة الانتداب الفرنسي وعاشوا الكثير من الأحداث التي مرت في تلك الفترات للباحث يالكين : من الصعب أن تكتب عن رجال بحجم وطن لأنك لن تعطي حقهم في الكتابة ، فإنهم رجال صنعوا تاريخاً مجيداً وسطروا أمجاداً عظيمة بين أبناء وطنهم وأخلصوا له , فناضلوا وضحوا بشبابهم وسخروا حياتهم لخدمة الوطن والمجتمع ، وما زلنا نتغنى بإنجازاتهم الوطنية والقومية ، ومازالت تلك الإنجازات هي الشعلة التي تضيء الدروب أمام الأجيال القادمة , أولئك الرجال كانوا يفعلون مايقولون ولا يقولون مالايفعلون ، ويتابع الحاج مختار حديثه قائلاً: إنني أتحدث عن شخصية وطنية وقومية عظيمة أدين لها بالفضل الكثير وأكِنُّ لها خالص المحبة والتقدير والعرفان ، لقد أثَّرتْ وتأثَّر بها كل من تعامل معها ، فقد اجتمع فيها كل الصفات الوطنية والقومية التي نادراً ماتجتمع في شخص واحد إنه عمي وتوأم والدي الراحل المرحوم الحاج نعسان آغا كال محمد مصطفى باشا شيخ مشايخ التركمان في سوريا ، فقد كنت معه دائماً وعاشرت كل مجريات حياته فهو كان بالنسبة لي بمثابة العم والأب والأخ والصديق
ويسرد الحاج مختار كال محمد في هذه السطور القليلة شيئاً يسيراً عن تاريخ عمه زعيم التركمان الحافل بالسيرة الحسنة طوال حياته ، وماهو إلا قطرة من بحر وغيض من فيض ، فمن طبيعتي أنني دائماً ما أتجنب المجاملة والمدح الزائف لمن لا يستحق ولكن الأمر هنا مختلف ، وانطلاقاً من الحديث الشريف : "من لم يشكر الناس لم يشكرالله" فأبى قلمي إلا أن يجود بما تجود الكلمات ليكتب عن عملاق من عمالقة الوطن وعَلَم من أعلام التركمان في سوريا ، وأنتهز الفرصة لأرفع القبعة شكراً وتقديراً وثناءً له ولتاريخه الحافل في خدمة أبناء شعبه ووطنه في فترة من فترات تاريخنا التركماني العظيم والمشرف
ولد الراحل الحاج نعسان آغا رحمه الله تعالى في قرية بلوى ميرخان ( سلوى ) التابعة لمنطقة جرابلس في محافظة حلب أقصى الشمال السوري في عام 1909م ضمن أسرة محافظة للعادات والتقاليد العشائرية التركمانية فنشأ فيها وتعلم مبادئ الفروسية في وقت مبكر من صباه ، وبعد أن بلغ ست سنوات من عمره أرسله والده المرحوم كال محمد مصطفى باشا إلى شيخ لكي يدرس ويتعلم القراءة والكتابة وحفظ القران الكريم , وما أن أمضى ثلاث سنوات تقريباً حتى تعلم القراءة والكتابة باللغة العربية والتركية العثمانية , وكانت تربيته وسيرة حياته رحمه الله تعالى نتاجاً طبيعياً للبيئة العشائرية التي عاش فيها , حيث إن أغلب المجتمع السوري وخاصة في الأرياف مجتمع قبلي عشائري إلى أبعد الحدود ، ومن خصلته كان عدم الخضوع للمذلة والتمرد على الاستعباد السياسي والاجتماعي المخالف للأعراف والعادات والتقاليد الخاصة بهم ، فأبناء العشائر التركمانية كانوا ومازالوا أصحاب الفروسية والمروءة والنخوة التي تعتبر من أقوى وسائل التعاون والتكاتف فيما بينهم في الأزمات والثورات والغزوات ، وكانت حياة الناس فطرية بسيطة ، حيث كانوا يعيشون في بيوت متواضعة وكانت المضافات للكرم والشهامة والمروءة التي هي من أهم صفات أهل القرى ، وعلى سبيل المثال فقد كان الرجل يبيع عباءته أو شيئاً من بيته لأجل إكرام الضيف , وكانت تعتبر الأسرة صورة مصغرة عن القبيلة التي تجمعها وحدة النسب بالإضافة إلى الولاء ، فهكذا وضمن الحياة العشائرية عاش وترعرع المرحوم الحاج نعسان آغا مرحلة طفولته وشبابه في قريته بلوى ميرخان , حيث كان يرافق والده الزعيم كال محمد مصطفى باشا الذي كان في تلك الفترة زعيماً لعشائر التركمان في سوريا ، وكان معه في حله وترحاله وشهد مئات مجالس الفصل العشائري والدعوات الاجتماعية حتى اكتسب خبرة كبيرة في الأمور العشائرية والاجتماعية ، وكانت القرية التي يسكنها بمثابة مثلث بين القرى والبلدات التركمانية ، فقد كانوا يأتون إلى مضافة والده كال محمد الذي سماه الأتراك في تلك الفترة ( كال محمد ديوان خانسي ) أي مضافة وديوان كال محمد الذي كان يقوم بإكرام الضيوف ويقدم لهم الطعام والشراب والمبيت حتى أصبحت له شهرة كبيرة وأصبح مقصداً للكثيرين
يقول أحمد عيسى أحد وجهاء التركمان للباحث يالكين : بعد وفاة الزعيم كال محمد مصطفى باشا برز ابنه الشيخ نعسان آغا الذي أضحى من شيوخ التركمان المعروفين في سوريا عموماً وفي حلب خاصة ، وقد ظهرت عليه في صباه علامات الذكاء والدهاء ، حيث كان يجيد ركوب الخيل بمهارة الفارس الشجاع ولا يهاب أحداً إلا الله ، وكان أديباً بارعاً يكتب الشعر الارتجالي التركماني الشعبي ، وكما هو معلوم فإن الارتجال في الشعر مسألة تتطلب حضور البديهة والبراعة في نظم الشعر ، وهذا ماكان يتميز به المرحوم , وعندما بلغ الخامسة عشر من عمره كان كرجل بين الرجال وحينما بلغ الخامسة والثلاثين عاماً تقلد منصب رئاسة العشائر التركمانية في سوريا بعد انتقال والده الزعيم كال محمد مصطفى باشا إلى رحمة الله تعالى والذي كان يشغل هذا المنصب العشائري ، حيث إن رئاسة أو مشيخة القبائل في المجتمعات العشائرية والقبلية كانت تمثل سلطة معنوية تهدف إلى إضفاء الشعور بالترابط والانسجام تحت ظل سلطة مركزية موحدة
يقول محمد مصطفى باشا أحد أبناء عموم الحاج نعسان آغا : لم تكن المشيخة في يوم ما مجرد منصب أو جاه يبرز صاحبه إلى واجهة الأحداث فحسب ، بل كانت قوة معنوية تستمد منها القبيلة أسباب عزتها وقوتها تجاه الآخرين، ومنذ أن تقلد المرحوم الحاج نعسان آغا رئاسة عشائر التركمان في سوريا قام بزيارتهم من الجولان إلى دمشق الشام وحمص العدية وحماه الأبية وحلب الشهباء والحسكة الخضراء والرقة البيضاء والقامشلي ، وشد الرحال مراراً وتكراراً إلى دمشق وحلب وحمص والرقة ليلتقي برجالها وساستها فتعلم منهم الكثير واستطاع في الوقت نفسه أن يوطد مكانته بين أصحاب النفوذ في حلب وانضم تحت مشيخته الكثير من العشائر التركمانية الأخرى ، وهذا يدل على مكانته المرموقة ومبلغ قوته ولا سيما أن علاقاته مع جميع العشائر التركمانية والعربية كانت جيدة وتواصله مع الأتراك وتلقيه الدعم اللازم منهم كانت لا تشوبها شائبة خلال فترة الاحتلال أو الانتداب الفرنسي.
توفي الحاج نعسان آغا رحمه الله تعالى عام 1968م ودفن في قريته بلوى ميرخان وكان له سبعة أبناء من أربع زوجات يعيشون في تلك القرية التابعة لمنطقة جرابلس ، وديوانه ومضافته مفتوحة لجميع الناس إلى يومنا هذا
الحاج نعسان آغا بن كال محمد مصطفى باشا ومقاومة الاحتلال الفرنسي
في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
لقد كان من مواقفه النبيلة تجاه بلده ووطنه أنه عندما كان في ريعان شبابه خلال فترة الاحتلال الفرنسي لسورية التي دامت واحداً وعشرين سنة ما بين عام 1922م - و1943م من المنظور الدولي ، بينما الاحتلال الفعلي لهذا البلد كان من عام 1920م وحتى عام 1946م فجمع المرحوم الحاج نعسان آغا بكل بسالة وشجاعة أبناء عشائر التركمان في منطقته في الشمال السوري وبالتعاون والدعم من الإخوة الأتراك لدحرالمحتلين الفرنسيين من وطنه
يقول محمد مصطفى باشا : إن الثورات المسلحة بين عام 1920م 1946م لم تكن متصلة من الناحية الزمنية فحسب ، بل كانت متصلة من الناحية المكانية أيضاً ، فثورة الشمال السوري التي قادها إبراهيم هنانو بالتعاون مع أبناء العشائر العربية والتركمانية والكردية كانت متصلة اتصالاً وثيقاً بثورة القصير في سنجق الاسكندرون بقيادة المجاهد الشيخ يوسف السعدون من جهة ، وبثورة جبل التركمان في باير بوجاق وثورة جبل صهيون في منطقة الحفة التي قادها المجاهدان نورس سوخطة ( نوراز آغا ) من جهة والمجاهد عمر البيطار من جهة أخرى ، وهذه الأخيرة كانت مرتبطة ارتباطاً عضوياً بثورة الشيخ صالح العلي في الجبال الساحلية ، وقد لعب المجاهد هزاع أيوب دور ضابط الاتصال بين هذه الثورة الأخيرة وثورة المنطقة الشمالية بقيادة إبراهيم هنانو الذي كان لديه تعاون وتنسيق وثيق مع قادة وزعماء التركمان في المنطقة أمثال الزعيم الحاج نعسان آغا ونويران آغا وغيرهما في الريف الشمالي من مدينة حلب لنيل الحرية واسترجاع كرامة الإنسان والوطن من الفرنسي المحتل
فقد كان التركمان والأكراد هم أول من قاوم الفرنسيين في ولاية حلب بالتعاون والدعم من الأتراك وخاصة من مصطفى كمال أتاتورك ، حيث قام بتشكيل مجموعات على شكل عصابات ( جته ) ضد الفرنسيين ومدَّهم بالسلاح وحرَّضهم على الثورة ضد الفرنسيين حتى كبَّدوهم خسائر مادية وبشرية هائلة في المعارك التي خاضوها في منطقة باير بوجاق والحفة وجبل الأكراد والشمال السوري
وأثناء إجلاء المحتل الفرنسي من الشمال السوري تم تدمير الكثير من العربات المدرعة الفرنسية وأسروا ضباطاً وجنوداً فرنسيين وقاموا بتسليمهم إلى الدولة السورية آنذاك والتي قامت بمكافأتهم بوسام الشرف على بسالتهم وشجاعتهم في تلك المعارك ، وبالرغم من ذلك كان يرى نفسه مقصراً تجاه دينه وبلده وأبناء جلدته
ومن التضحيات التي تجسد وفاءه الكبيرلأبناء جلدته من التركمان وواجبه ومبادئه التي لم تتزعزع قطعاً في حياته ، فبعد احتلال اليهود الصهاينة للقرى والبلدات التركمانية في الجولان والقنيطرة أتى بالتركمان المهجرين من الجولان إلى شمال سوريا وكان من بينهم زعيم تركمان الجولان المرحوم فائز آغا ووزعهم بين أقاربه فعاشوا فترة من الزمن في المنطقة الشمالية إلى أن استطاعوا الاعتماد على أنفسهم ومن ثم سافروا إلى مدينة دمشق واستقروا في الغوطة ومساكن برزة والحجر الأسود وحي القدم وعدة مناطق دمشقية أخرى , وكان له الكثير من الفضائل على كافة الأصعدة التي تتعلق بالأمور العشائرية دون تمييز بين أبناء الوطن السوري الواحد
أضحى هذا الرجل كما كان والده كال محمد مصطفى باشا يمثل إرثاً تركمانياً أصيلاً فقصده الكثير من الناس إلى قريته وألحَّ عليه الكثير من الأتراك و التركمان أن ينتقل إلى منطقة هاطاي ويعيش فيها ولكنه أصر على البقاء في وطنه وقريته بين أبناء قوميته لأنه أضحى عَلماً عشائرياً لا يمكنه التفريط به , وصدى أعماله وخدماته كانت معروفة لدى كافة العشائر السورية وحتى العراقية أيضاً , ويشهد بذلك العشائر العربية من بني البطوش والجبور وعرب الهيب والجيس والشمر والعنزة والعشائر العربية الأخرى
من مناقب الحاج نعسان آغا بن كال محمد مصطفى باشا
في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
ذكر علي دادا أحد وجهاء تركمان بوزكيج في تل الأبيض : إنه في إحدى المرات وقعت حادثة إطلاق نارعلى شخص من قبيلة عربية نتيجة شجار مع أحد التركمان في عام 1960م وعلى إثر ذلك توفي الرجل ، وكما هي الحال في العادات والتقاليد العشائرية في مجالس الصلح فإن قادة القبائل من التركمان والعرب يجلسون ويتفقون على مقدار الدية المطلوبة , فذكر علي دادا الذي كان يرافق المرحوم الحاج نعسان آغا بأنهم ركبوا في السيارة معاً وذهبوا إلى القرى التركمانية في الرقة وتل الأبيض لجمع مبلغ الدية المطلوبة , فأتوا إلى قرية الدادت التابعة لمنطقة تل الأبيض في الرقة ، وكانت هذه المنطقة تعتبر آخر نقطة للتركمان في أقجه قلعة من الجهة المقابلة لمدينة أورفا التركية ، وبعد أن نالوا قسطاً من الراحة في الطريق ظنَّ رفاقه الذين كانوا معه بأنهم سيعودون إلى ريف حلب ، فقال الحاج نعسان آغا : انطلقوا لنذهب إلى تل كوجار القريبة من الحدود العراقية لزيارة أهلنا التركمان هناك ، فسأله أحدهم : وهل هناك تركمان في تلك المنطقة التي تبعد 500 كم تقريباً عن تل الأبيض ؟ لأنها منطقة ذات أغلبية كردية وعربية ، فأجاب الحاج نعسان آغا : نعم
يقول علي دادا : إنه لم يكن بمقدور أحد الاعتراض لعدم الذهاب إلى تلك المنطقة ولكن عندما وصلوا إلى تل كوجار عرفوا سبب مجئيهم إلى هذه المنطقة بأنه يعيش فيها عائلة تركمانية واحدة وهي عائلة السيد جمعة التركمان ليأخذوا منه حصته المترتبة عليه من الدية , فسمع بعض رؤساء العشائر العربية في الحسكة بخبر وصول الشيخ وزعيم التركمان الحاج نعسان آغا فاستقبلوه بحفاوة بالغة وطلبوا بنزوله عندهم ولكن الشيخ نعسان أصرَّ على أن له أقارب من التركمان ينتظرونه وأنه معزوم عندهم , فسأله أحد الشيوخ العربية متعجباً ومستفسراً : وهل لديكم أقارب تركمان هنا ؟! فقال: نعم لدينا أقارب وهو فلان ابن فلان
يقول علي دادا : بعد وصولهم إلى قرية تل كوجار جلس الحاج نعسان آغا في المقهى وطلب منا الذهاب إلى منزل جمعة التركمان لإحضاره ، فوجدوا منزله بائساً متواضعاً فقيراً وأحوال الرجل معدَمة ، حيث الستارة تقسم منزله إلى قسمين نصفهم للرجال والنصف الآخر للنساء ، فأبلغوا جمعة التركمان بأن يأتي إلى المقهى حيث ينتظره الحاج نعسان آغا ، وعند قدومه قال له الحاج نعسان بأن أحد التركمان قد أطلق النار على أحد رجال العرب فقُتِل على إثره هذا الرجل ؛ لهذا جئنا إليكم لنأخذ حصة الدية منكم , فقال جمعة التركمان : مولاي خذ مني هذا المبلغ وسلمه خمس ليرات آنذاك ، ولربما كان المبلغ الوحيد في جيبه ، فقال له الحاج نعسان آغا : ضعه في جيبك وضع بعض التبغ في علبتي فهذا يكفي وسوف نعتبر بأنك دفعت مايترتب عليك دفعه ، فيضع جمعة التبغ وهو محرج من وضعه ، ثم قال الحاج نعسان آغا : هيا توكلوا على الله لنرجع ، فاندهش جميع من كان يرافقه وسألوه : لقد قطعنا مسافة ثلاثمائة كيلو متراً ذهاباً وسوف نقطع مثلها إياباً ، فهل كل ذلك من أجل حفنة من التبغ يا شيخ ؟! فابتسم الحاج نعسان آغا وقال : إخوتي إنني كنت أعرف وضعه المادي من قبل ، فجئنا إليه هنا حتى لا يظن أحد أنه وحيد في هذه المقاطعة البعيدة وكذلك كي يعلم جيرانه من قبائل القوميات الأخرى بأن هذه العائلة التركمانية البائسة ليسوا مقطوعين من الشجرة وإنما وراءهم كل العشائر التركمانية وأيضاً كي لا يضغط عليهم جيرانهم من القبائل الأخرى ، فلو أننا حصلنا على المال منه فإنه لن يفيد رحلتنا بشيء أبداً , هذا وإننا لانعرف ما إذا كان أبناء وأحفاد جمعة التركمان لا يزالون يعيشون في تل كوجار على الحدود العراقية إلى الآن أم لا
ويروي علي دادا شيخ الدادات الذي كان يرافق الحاج نعسان آغا خلال جولته في المنطقة الشرقية أنه حينما زار المنطقة الشرقية في إحدى المرات وبدعوة من أحد أصدقائه الذين ذهبوا معه إلى الحج حيث كان يعتبر من وجهاء العشائر العربية في المنطقة ، وكان الشيخ نعسان آغا جالساً في المقهى فدخلت امرأةٌ عجوزٌ وقالت : قصدتك يا شيخ بأن تقضي لي حاجتي ، فقال لها وما حاجتك يا أماه ؟ فقالت : إن لي ولداً مطلوباً لأداء خدمة الجيش وأنا كما ترى امرأة عجوزٌ لا أحدَ يعينني سواهُ وكذلك لا أملك المال لأدفع عنه مبلغ بدل خدمة الجيش ، فأرجو أن تعطيني مبلغاً من المال لأدفع عنه البدل المطلوب ، فأَخرجَ رحمه الله تعالى مبلغاً من جيبه يكفي لحاجة تلك المرأة حتى خرجت من عنده وهي سعيدة وتدعو له بالخير واليمن والبركة , وعندما وصل الحاج نعسان آغا إلى رفيقه في الحج استقبله بحفاوة وتكريم فلما أراد الرجوع إلى قريته في منطقة جرابلس أهدى له الشيخ مئتا كيس من القمح ، وعندها قال لجلسائه : إن الله قد عوضنا بدل ذلك المبلغ الذي دفعناه لتلك المرأةِ العجوز ورأينا أثر دعائها لنا والحمد لله
يقول محمد مصطفى باشا : ذهب الحاج نعسان آغا إلى الحج في بيت الله الحرام سنة 1951م وكانت برفقته امرأة تدعى أم خليل حاجم من آل جربا وهم من عشائر البدو ومن وجهاء شيوخ العرب في المنطقة ، فهذه السيدة كانت معروفة لدى أمراء المملكة العربية ، حيث جاؤوا إلى تلك المرأة ودعوها إلى مأدبة عشاء عند أميرمنطقة مكة المكرمة ، فأرادت أن تأخذ الحاج نعسان معها إلى تلك الدعوة لكي يتعرف على أمراء مكة المكرمة فرفض وقال لها : يا أم خليل إني في ضيافة ربي والحمد الله وإنني لأستحي أن أخرج من مأدبة ربي جلا وعلا إلى مأدبة غيرهِ ، فاذهبي أنت وعودي فنحن بانتظارك ، فهكذا كانت حاله مع شعائر دينه رحمه الله تعالى ، وكلما التقى مع أحد من العلماء أو الشيوخ أو الدراويش كان يطلب منهم الدعاء لنفسه ولملته وبلده وللأمة الإسلامية
وهناك الكثير من المآثرالوطنية والقومية والاجتماعية للشيخ نعسان آغا ، فقد كان لا يترك بيتاً تركمانياً إلا ويزوره ليطمئن عن أحوالهم حتى وإن كانوا في أقصى الوطن ، لذلك فكان المرحوم رجلاً بحجم الوطن
وقد استطاع أن يجمع بين الوطنية والعشائرية وبين فكرة الكبار والمفكرين وبين التواضع والشموخ ، فيحل قضايا مجتمعه العشائري بروح شفافة وجريئة وقدرة على الابتكار والحلول ومتابعة تنفيذها من غير سعي وراء مصلحة أو منفعة شخصية ، بل كان حباً وعوناً للآخرين ، فابتسامته كانت لا تفارق وجهه البشوش ونكاته وطرائفه لا تفارقه أبداً ، فكل ذلك كانت تعكس فكره وذكاءه وقدرته على الوصول إلى القلوب والعقول وكسب احترام الآخرين ، فلم يتوقف عطاؤه القومي والوطني والنضالي في كافة مراحل حياته وفي مختلف الظروف العصيبة أو المواقف الحساسة التي شهدها وطنه الحبيب سوريا وقام بمسؤولياته وتحمّل تبعاتها بكل كفاءة واقتدار
الحيار في العرف والعادات التركمانية في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
يقول الاستاذ عبد الحميد ابن الشيخ خلف الابراهيم أحد أحفاد وجهاء التركمان في حمام التركمان حول الحيَار وهو عُرْفٌ اجتماعي عربيّ يسري في أعراف كثير من القبائل ، حيث يعطي لابن العم الحقّ في الاستئثار بابنة عمّه للزواج ولو بغير رضاها ولا يتطلب الأمر إلّا أن يضع ابن العم دائرة طباشير قوقازيّة على ابنة عمّه فلا يقربها أحد سواه ، وإنّ تجرّأ أحد على ذلك فإنّه يكون قد وضع نفسه أو أخاه أو أباه أو قريباً له في دائرة الانتقام ، ويكون الاستعداد للقتل شرطاً لاحترام إرادة المحيّر، إذْ لا يجرؤ العاقل على الدّخول في دائرة الخطر إذا علم أنّه مُحْدِقٌ به ، فالقبائل السّورية وخاصة الشمالية ما زالت تعرف هذا العُرف الجائر فيرتكبه العربيّ والكرديّ والتّركمانيّ ، وفي الغالب تتعرّض الجميلات لسلطان هذا العرف أكثر من غيرهنّ ويكون القتل مصير أغلب من يتجاوز هذا العرف ، وقد يذهب ضحية هذا العُرف من لا ناقة له ولا جمل فيه ، وقد استمرّ هذا العُرف ( القبيليّ ) في القبائل بالرّغم من مخالفته للشّرائع السماوية ، وثمّة في حياتنا وحياة من حولنا قصص كثيرة محزنة من قصص الحيار ، فأحد أصدقائنا كان في ريعان شبابه أنهت حياتَه – رحمه الله تعالى – رصاصات الحيار فور إنهائه دراسته الجامعيّة وبدئه بالعمل الوظيفيّ ، حيث كَمَنَ له القاتل أمام المجمّع الحكوميّ لدى ذهابه إلى عمله صباحاً ولم يكن له ذنب إلا أنّ أخاه قد تزوج من فتاة كان لها قريب راغب فيها ، وهناك الكثير من علاقات الحبّ أودت بها أهواء الحيار خوفاً من انتقام القتل ، وربّما أودى الحيار بالطبيعة البشريّة لامرأة كان ابن عمّها لا يريد إجبارها على الزّواج منه ولكنّه في الوقت نفسه لا يريد أن يكسر كلمته فيتركها تُمضي إرادتها في رفضها له بلا عقاب وما أسوأه من عقاب
وإنني أعرف رجلاً فاضلاً من قبيلة مجاورة وكان صديقاً لأبي ومعروفاً بالطّيب والوجاهة والعقل توفي بعد عمر قضاه في الخير ولا نزكّي على الله أحداً ، فقد أوقف ابنة عمّه أخت شيخ القبيلة لأنّها رفضته فكبرت ولم تتزوّج
وكان الحاج نعسان آغا ابن كال محمد بن مصطفى باشا من الحاج علي البكمشلي شيخاً للتّركمان والذي أقرّه كلّ تركمان المنطقة الشّمالية في سوريّة على زعامة القبائل التّركمانية ، وكان آل علي الباجلية قد غادروا المنطقة إلى مناطق أخرى من حلب لخلاف مع أقاربهم في شرق البليخ ، فأنهى ياسين العبيد الخلاف الذي كان يرى الحاجة إلى ( العصبة ) أهمّ من الخلافات
وكان للحاج نعسان آغا قصّة مع الحيار فقد كان أهل حلب من باشات التّركمان يزورون حمّام التركمان في بعض الأعياد والمواسم والمناسبات وخاصة في مناسبات العزاء ، ومنذ أن أنهى ياسين العبيد الخلاف بين الباجليّة والطوبال كان الحاج نعسان آغا وابن عمّه زكي باشا وآخرون يواظبون على زيارتهم ، وكان أهل حمّام التركمان يحتفلون بهم احتفالاً يليق بمقامهم ، فكنّا لا نرى أبي حين قدوم الحاج نعسان آغا أسبوعاً أو أسبوعين ,وذات يوم خطب أحد رجال المنطقة من غير التّركمان امرأة تركمانيّة جميلة من مناطق حلب فاعترض الحاج نعسان على ذلك ولكنّ أهلها أتمّوا الزواج خلافاً لإرادة الشيخ ، فغضب الشّيخ وقال لجدّي خلف الإبراهيم لدى زيارته حمّام التّركمان : اذبحوه , فقال له خلف الإبراهيم : إن شاء الله ، ومرّت سنوات وكان الحاج نعسان آغا كلّما زار حمّام التركمان يسأل : لماذا لم تذبحوه ؟! فيتعلّلون بأنّهم لم يجدوا فرصة لذلك ,وجاءت الفرصة ذات يوم وكانت عمّتنا التّركمانيّة وزوجها في البوسطة الزّرقاء ( الحافلة ) القادمة من الرّقّة إلى تل أبيض مروراً بحمّام التّركمان وصادف أن تعطّلت البوسطة في وسط القرية وأسرع من رآهما إلى خلف الإبراهيم يخبرونه بالأمر ويسألونه : هل نذبحه ؟ فسكت الشّيخ لحظاتٍ يقاوم نزعات الشّرّ في نفسه ، وكانت نفوس بعض القوم ضعيفة ومستعدّة لفعل الشّرّ ، وأرجع الشيخ شريطاً من ذكريات حُبّ مرّت في خياله فقال لهم : لا بل ادعوهما إلى البيت , ولبّى الرّجل الدّعوة متوجّهاً إلى المضافة وخرجت النساء لاستقبال عمّتنا التي كان يمكن أن تصبح أرملة القتيل ، وقاموا بواجب الضّيافة لهما على أحسن ما يُرام ثمّ أوصلوهما في وقت متأخر إلى قريتهم قرب تل أبيض ، ولما وفد الحاج نعسان آغا إلى حمّام التّركمان كالعادة في كلّ عام سأل سؤاله المعتاد : لماذا لم تذبحوه ؟ فأجابوه ضاحكين لقد صار الرّجل صهرَنا وصرنا أخوالَ أولاده ، وتقبّل الحاج نعسان ذلك على مضض , ومرّت أعوم وحدثت في حمّام التركمان مشكلات تعود إلى مسائل الحيار وانتهى جميعها بالتنازل عن نعرة الشّرّ إلى جانب الخير ، ولو حدث ذلك في هذه الأيّام المقيتة لكان الشّرّ سيّد المواقف مع الأسف.
وكنت أسمع بعمّتنا التي تأتي إلينا هي وأولادها أو زوجها في بعض الأعراس أو في مناسبات العزاء ولم يصدف أن رأيتها غير أنه صباح ذات يوم كنت في تل أبيض مع المرحوم تركي الخليل المصطفى ، وعندما وصل الباص القادم من حلب نزلت منه امرأة كبيرة في السن نحيفة القوام طويلة كالرّمح لم ينقص كبر سنّها من جمالها وحُسْنِها فقال لي تركي : هذه عمّتنا مايا تعال نسلّم عليها ، فتقدّمنا منها وسلّمنا عليها وسألها المرحوم إذا كان سيأتي أحد لاستقبالها أم لا ، فقالت : لا أحد يدري بقدومي ، فحملنا حقائبها وأوصلناها بسيارته ، وقلت لتركي لدى عودتنا : لقد كان الشيخ الحاج نعسان آغا محقّاً في الحيار(18)
نامق مصطفى باشا مؤسس مدينة عفرين وقائم مقام منطقة إعزاز والمعبطلي والنبك
في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
يقول السيد فياض سليمان أحد وجهاء التركمان في قرية راعل والذي ينتمي إلى قبيلة الجلبي التركمانية بأن نامق مصطفى باشا من أحفاد الحاج علي الذي ينتمي إلى قبيلة البكمشلي والذي كان أحد ضباط السلطان عبد الحميد الثاني وقد تولى منصب قائم مقام لمنطقة إعزاز والمعبطلي لمدة 22 عاماً وقام بتخطيط إنشاء مدينة عفرين التي كانت قرية صغيرة عندما استلم وظيفته كقائم مقام في المنطقة
......................................................................................................................
(18) الحيار أو التحيير يعطي “حقاً عرفياً” يبيح لأي شاب في المجتمع العشائري عقد قرانه على ابنة عمه، حتى إن لم ترغب هي بذلك، وهكذا تصبح مقيدة له طالما هي على قيد الحياة، ممنوع عليها أن تتزوج بغيره، فقط تنتظره، علماً أن تحييرها لا يعني الزواج بها، قد يتزوج ابن العم أخرى وتبقى ابنة عمه رهناً له في منزل أهلها.
وذكرت صحيفة إخبارية في خبرها أن نامق مصطفى باشا كان هو النجل الأصغر لأسرة تتكون من تسعة أولاد ، وقد ولد في قرية طاشلي هويوك في عام 1887التابعة لمدينة جرابلس وتخرج من الأكاديمية الحربية في إسطنبول وكان أحد ضباط السلطان عبد الحميد الثاني ، وأرسلته الحكومة التركية حينها إلى سوريا , حيث إن نامق مصطفى باشا عمل لفترة في الجيش العثماني ومن ثم عُيِّن قائماً للمقام لبلدة إعزاز والمعبطلي السورية ، وينتمي إلى أحفاد الحاج علي من قبيلة البكمشلي إحدى وجهاء القبائل التركمانية في سوريا ، وعمل نائباً في البرلمان السوري في عام 1963م ، وبعد 22 عاماً من عمله في منصبه كقائم للمقام في إعزاز ومعبطلي وعفرين والنبك في دمشق
يتابع فياض سليمان حديثه حول هذه الشخصية التركمانية الفذة بأن نامق مصطفى باشا واصل علاقاته مع حكومة أنقرة بعد تأسيس الجمهورية التركية واكتسب تقدير تركمان سورية بدفاعه عن الشعب التركماني مشيراً إلى افتخاره بكونه ضابطاً عثمانياً إلى حين وفاته في عام 1971م ، هذا وإنه لم يخلع طربوشه العسكري طوال حياته وكذلك لم يترك عصاه حتى آخر أنفاسه ، كما شارك السفير التركي في جنازته ، وكان قد كُرِّم من قبل السلطان عبد الحميد الثاني بوسام الدرجة الممتازة وذلك جراء خدماته في الجيش العثماني وكذلك لخدماته الجليلة لأبناء منطقته
يذكر أنه تم تعيين نامق مصطفى في بادئ الأمر قائماً للمقام في إعزاز ومن ثم المعبطلي في عام 1920م وأن الوثائق الرسمية تشير إلى عفرين في تلك الفترة حيث كانت قرية صغيرة تتألف من 70-80 منزلاً ، وكان نامق باشا قد أدار عدداً من المشاريع الزراعية ومنها زراعة أشجار الزيتون في آلاف الأفدنة المحيطة بعفرين ، والآن فإن مدينة عفرين تلبي 60٪ من احتياجات سوريا من الزيتون ، وقد تم لاحقاً فتح الطرقات في مركز ومحيط مدينة عفرين والقرى المحيطة بها وتم فتح مجالات الإعمار ، وخلال فترة قصيرة نمت وتطورت مدينة عفرين ، وفي عام 1922م تحولت إلى مقاطعة بفضل جهود نامق مصطفى باشا الذي تولى رئاستها لمدة 16 عاماً ،
هذا وقد أُطلق اسم نامق مصطفى باشا على إحدى ساحات مدينة عفرين وأيضاً على شارع في مدينة إعزاز
قبائل التركمان والعرب والكرد في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
من المفهوم أن العلاقات بين التركمان مع العرب الذين كانوا يعيشون في المنطقة لم تكن جيدة أبدا . اللافت للنظر أن السبب الرئيسي للتوترات بين التركمان والعرب هو تقسيم الأرض في مناطق إنتشارهم . بالإضافة إلى ذلك ، ظهورالاختلافات الثقافية بين الهيكلين العرقيين المختلفين كعامل حاسم . الحروب والمعارك التي جرت بين العرب والتركمان في الماضي وقد تم ذكرها في التاريخ الشفوي والمحلي وخاصة من خلال الموروث الشعبي التركماني في الشعر والأغاني الشعبية التركمانية ,حيث صادف يالكين الكثير من البيانات حول هذا في تحقيقاته . إحدى الأغاني الشعبية التركمانية تحاكي معارك النضال التركماني ضد القبائل العربية وخاصة قبيلة بني سعيد العربية والخلاف الدائر فيما بينهم بسبب تقاسم الاراضي وغيرها
طبعاً بحكم الإقامة والسكن في المناطق المتشعِّبة بالقبائل العربية والتركمانية والكردية في تل الأبيض وحمام التركمان التابعة لمحافظة الرقة , حيث تصاهروا مع بعضهم البعض وانصهر جزء من التركمان مع العرب والكرد وفقد قسم منهم لغته التركمانية الأم واستعرب الآخرون في هذه المنطقة من أتباع الحسن العلي الأعرج والبداغ حتى أصبح بعض وجهاء هذه العائلة يدعون بأنهم ينتمون إلى عشيرة العبيد الزبيدية العربية الذين عاشوا مع القبائل التركمانية كما ذكرالكاتب عبد الحميد حمد في كتابه ( عشائر الرقة والجزيزة ) وأحياناً يدعون انتسابهم إلى بجدل أوبحدل بن أنيف الكلبي ، وإن كان بعض وجهاء وأبناء قرى حمام التركمان ينكرون ادعاءات من ينسبهم إلى هذه القبيلة
كان التركمان في هذه المنطقة كقبيلة واحدة مثل باقي القبائل والعشائر العربية ، ومن يقطن في حمام التركمان وقراها يعتبر تركمانياً , حيث يلمس الحفاوة وطيب المعشر وحسن الجوار ويكون له مالهم وعليه ماعليهم ، وبعد عودة التركمان إلى هذه المنطقة سواء من قرى حلب التركمانية أو من تركيا حدث خلل في تحديد هوية التركماني وكان قدوم الخواجة الإخوة ة وأبناء العمومة الشباب من تركيا نقطة فاصلة فكثر اللغط فيهم ، وهنا برز دور بوزان الجمعة الذي كان له مكانة اجتماعية ونسب ظاهر في التركمان ومتحدث بالتركية , ومن أعمامه إبراهيم الإسماعيل صاحب البيت الكبير في أورفا ويعرف بعلم الأنساب للتركمان وقال كلمة الفصل فيهم بأنهم تركمان وسكنوا قرية الزيبقية وتملكوا فيها بعد الإصلاح الزراعي
لقد عاش التركمان في هذه المنطقة كقبيلة واحدة دون تمييز بين الأفخاد والفروع ، وكان الود يسود بينهم حيث يذكرون مناقب بعضهم البعض ويتغنون بها ويترحمون على بعضهم ويجتمعون في السراء والضراء وكان إذا وفد عليهم زائر من تركيا أو حلب أو من أي مكان آخر يكون هذا الضيف ابن عم للجميع فيكرمونه ويجتمعون لسماعه ، وكان أكثر ما يميز ذلك زيارة الحاج نعسان آغا فيزورهم جميعاً في مضافاتهم كما يزور كل تركماني حلت به مصيبة من أجل إيجاد الحلول وتقديم يد العون والمساعدة له ولأسرته ويرافقه القوم حتى عودته ، وله في قلوب الخاصة والعامة مكانة من الود والاحترام والعرفان بالجميل لدوره القومي ومقرّين بزعامته للتركمان كشيخ لمشايخهم حتى مماته.
يقول الباحث يالكين : جرت توترات ومعارك كثيرة في هذه المنطقة بين العرب والتركمان والكرد في الماضي وذكر في التاريخ الشفهي والمحلي وكانت تروى قصص الحروب وملاحمها ، وكانت تغنى تلك الملاحم من خلال الأغاني الشعبية التركمانية حيث صادف الباحث يالكين الكثير من البيانات حول ذلك في تحقيقاته الميدانية في جنوب الأناضول وفي حلب والرقة وعلى لسان كبار السن من شيوخ وأبناء القبائل التركمانية
ويقول خليل آغا : كانت المنطقة قبائل وعشائر عربية وكردية وتركمانية يعيشون جنباً إلى جنب يحصل بينهم كثير من التوتُّرات بين الحين والآخر ، كما حصلت ثارات وغارات مع باشات الأكراد من قبيلة المللي في كثير من الفترات التاريخية وتناقلتها الأجيال أدباً وشعراً ، وكانت تُمجَّد هذه الحوادث التي برز فيها اسم الگل أخو عيوش كقائد وفارس شجاع حمل المروءة والشجاعة ، وتنافست القبائل التركمانية في نسبه التاريخي حيث الكل يدعي بانتمائه إلى قبيلته , وفي تلك الحوادث والمعارك التي جرت بين القبائل التركمانية والكردية والعربية كانت الغلبة للتركمان دائماً ، وبعد عودة قسم من القبائل التركمانية وخاصة قبيلة البكمشلي إلى ربوع الجولاب حيث مكان إسكانهم للمرة الأولى أصبحوا في المنطقة مجموعة صغيرة لا تسطيع بمناكفة القبائل الكردية والعربية الكبيرة في المنطقة ، فعمدوا إلى الصلح مع باشات الأكراد المللي وزوجوا خاتون ( لقب أو اسم يدل على سيدة القوم ) إحدى بناتهم لتمرباش وذلك لطي صفحة من التاريخ راح ضحيتها كثير من الكرد وعدد من التركمان
غدر ابن تمرباش بأخواله التركمان في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
يقول خليل آغا سارداً للأحداث التاريخية في المنطقة : كان تمرباش يعمل لديه رجل عربي يدعى گشا ، فلما رأى من حب تمرباش لزوجته خاتون وأبنائها قال مقولته المشهورة فيهم : طاب البر وطاب البر وخاب البر وخاب البر , مما حمل الخاتون على إنهاء خدماته لأنها فهمت مراده من هذه المقولة التي يريد الوقيعة من خلالها بين الزوج وزوجته وبين الأب وأبنائه ، وبعد مرور سنوات كبر تمرباش وحصلت جفوة من الخاتون له وتنكَّر له أبناؤه حينها ردد تمرباش قوله : صدق گشا عندما قال : طاب البر وطاب البر وخاب البر وخاب البر , وكان گشا جد خليل إبراهيم الخليل من عشيرة المجادمة العربية قد ساد عشيرته وسكن في قرى خنيز ، وهو الشيخ الحالي للمجادمة وقراهم معروفة بخنيز الگشا , ولم تتوقف الحال هنا بالنسبة للتركمان عامة والبكمشلية خاصةً ، ففي إحدى الأيام حضر أحد أبناء تمرباش من زوجته الخاتون إلى أخواله التركمان الذين كانوا يعيشون على ضفاف البليخ وكانت أرضهم تُروى منه وطلب من أخواله الميرة أي بعض القمح له ولقومه فوعده أخواله خيراً
يتابع خليل آغا بسرد وشرح الأحداث التي جرت مع ابن تمرباش فقد قال لأخواله من وجهاء التركمان : إن من قومي الكرد أصحاب ثأر لديكم وقد حُقِنت دماؤنا ودماؤكم في الفترة الماضية بعد المصاهرة بزواج أبي الكردي من أمي التركمانية التي هي إحدى بناتكم , وعليه فإني أخشى الفتنة وأتمنى في الأيام القريبة القادمة عند حضورنا لأخذ القمح منكم بأن لا تجعلوننا ننتظر كثيراً لأننا سوف لن نمكث طويلاً هنا لديكم , وبعد عقد الاتفاق فيما بينهم ظهرت مكيدة من ابن تمرباش لأخواله وذلك لأمرين : الأول حتى لا يدفع لهم ثمن القمح ، والأمر الآخر : ثأراً لقتلاهم نتيجة التوترات التي حصلت بينهم سابقاً بسبب تقسيمات الأراضي وأمور أخرى
فخرج القوم من التركمان إلى العنابر في التلة الواقعة شرقي الديمشلية البعيدة عن النهر ، حيث لم يبقَ رجل واحد في الديمشلية إلا وخرج وانهمك الجميع بكشف عنبره ، وبعد انتهاء مهلة جمع القمح من العنابر وتجهيزه قَدِم ابن تمرباش في قافلة كبيرة من الفرسان والجمال عليها صناديق لحمل القمح في الظاهر ، فلما وصلوا إلى المنطقة غدروا بالقوم الذين كانوا يجهزون لهم القمح فباغتوهم من على ظهور الجمال التي كانت تحمل السلاح داخل الصناديق التي على ظهورها
يذكر خليل آغا بأن الحادثة أدت إلى مقتل أكثر من أربعين شخصاً من التركمان وخاصة من البكمشلية ، ويروى في هذه الحادثة أنه لم يبقَ إلا عدد قليل من رجال التركمان على قيد الحياة سوى النساء والشيوخ والأطفال ، وكانت هذه آخر وجود لهم بعد انتهاء حكم الامبراطورية العثمانية وسياساته الإسكانية في المنطقة حتى تاريخ 1925م وعودة بعض العلائلات التركمانية إلى المنطقة من أحفاد قبيلة البكمشلي وأقاربهم الذين سكنوا في منطقة حمام التركمان وقرى الجولاب الأخرى , إلا أن تلك القبائل عادت إلى الأناضول والبعض الآخر أجبرتها القبائل العربية على الرحيل ، وذلك كما حصل بين الجيس والتركمان في بدايات عام1700م , ومن تلك القبائل التي كانت بين حران و سلوك وعين العروس حتى حدود عين عيسى قبيلة البكمشلي والقره شيخلي والجيمكانلي والبوز قويونلو والديملكلي وبايديلي والقادرلي وقره كيجلي وبيش ألتيلي وإيلبايلي وعربلي وغيرهم من القبائل ، وبقي قسم من أحفاد هذه القبائل في الرقة حول أطراف نهر البليخ وقسم آخر استقروا في حلب وريفها إلى يومنا هذا
ويبقى الجولاب على ضفاف نهر البليخ الموطن الأصلي للقبائل التركمانية بعد الإسكان عام 1691م بعد موطن أجدادهم في آسيا الوسطى ، حيث أسس التركمان إمارتين هما إمارة الخروف الأبيض ( آق قويونلو ) في ديار بكر في القرن الخامس عشر , وإمارة الخروف الأسـود ( قره قويونلو ) ومنهم آل رمضان أوغلولاري في أدنه الجولاب وآل ذو القدر في مرعش
إسكان التركمان في الجولاب وريف الرقة في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
لقد هاجر التركمان من وسط آسيا نحو الشرق الأوسط وأوروبا في القرنين التاسع والعاشر ، وكانت هجراتهم على شكل دفعات من وسط آسيا "أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان" وسميت هذه الجماعات بـ " اليوروك أي التركمان العابرين الرحل " واستقروا في منطقة آسيا الصغرى " الأناضول " والشرق الأوسط وأسسوا عدة دول ومنها الدولة الخوارزمية والقراخانات والسلاجقة
وعندما استوطن قسم من التركمان في منطقة مرج دابق شمال شرق حلب كانوا يعتمدون في حياتهم اليومية على تربية المواشي ويمارسون صناعة السجاد , وأحياناً كان هناك قسم منهم يمارس السلب والنهب عن طريق الغزوات ، حيث قاموا بعدة عصيان ضد الدولة العثمانية ، فصدر فرمان عثماني عام ( 1696م ) بإسكانهم في وادي البليخ من حرّان جنوب الرها حتى مصبّه في نهر الفرات شرق الرقة ، فلم يثنهم ذلك عن استمرار عصيانهم فكانت الدولة العثمانية تهيِّؤ لهم حملات تأديبية والإسكان القسري في مناطق الصحراء والبادية لتتخلص من عصيانهم.
كذلك سكن التركمان في منطقة منبج قديماً عندما هاجروها سنة 1241م وفي عام 1693م أمرت الإمبرطورية العثمانية بإسكان عشائر تركية متنوعة في منطقة منبج التي كانت في حالة خراب منذ أكثر من مئة سنة ، وصدر بذلك أمر بتاريخ 19 حزيران من عام 1693م إلى والي الرقة وقاضيها بإسكانهم وتوطينهم فيها ، وعلى إثر ذلك تم توطين 1038 عائلة في 1481 فيدان تقريباً من أراضي القرى التي ترويها مياه نهر الساجور ، وتم توزيع 245 فيداناً من أراضي منبج على 197 عائلة أُسكِنت فيها ، وتنتسب إلى أفخاذ ( طورون إيلبايلي وطافور إيلي وفيروزلي وطافوقلو وقره طاشلي وطوفونلو وعادللي وحاجي فقيلي وحسين فقيلي )
كما شهدت منبج أيام العثمانين هجرة بعض العائلات التركية التي قدمت من مدن ( غازي عنتاب وترب خربوط ) واستقروا في حي عنتاب ، وبعضهم قدم مؤخراً من الجزيرة وجرابلس وإعزاز
أما قدوم التركمان إلى الجزيرة الفراتية وعلى ضفاف نهر البليخ فكانت جزءاً من دولة بني عُقيل القيسية منذ 990 م والذين تربطهم بالسلاجقة العظام علاقات تحالف ومصاهرة ، إذ تزوج أمير الدولة العقيلية مسلم بن قريش بن المقلد العُقيلي من الأميرة صفيّة خاتون بنت السلطان ألب أرسلان ( بطل معركة ملاذكرد التاريخية ) وهي أخت زوجة الخليفة العباسي المقتدي الأميرة سِفْري خاتون ، ولكن العقيليين قطعوا تحالفهم مع السلاجقة وهاجموا دمشق وضربوا عليها حصاراً دام شهراً بهدف ضمها لبناء دولة عربية كبرى سنداً للخلافة وسط صراع بين قوى فارسية ورومية وتركية وفاطمية على الخلافة العباسية المتهاوية
وعند قدوم العثمانيين لسورية عام 1516م أصدر السلطان سليمان القانوني قانون تشكيل الولايات العثمانية سنة ( 974 هـ /1566م ) وأصبحت الرقـة ( إيالـة ) تضـم عـدة سناجق أورفـة ( الرهـا ) وديـر الرحبـة والخابور وعانـة وسـروج وبراجيك ) ولكن تلك التنظيمات قد واجهت مشكلة البـدو الرحل ، وعلى إثر هجرة قبائل ( عنزة وشمر ) إلى سورية صاروا يغيرون على الفلاحين المسالمين ، فقوت الدولة شيوخ العرب ( البوريشة ) وأعطتهم إقطاعات إمارة على ضفاف الأنهار وحول الينابيع في البادية وألزمتهم بالمحافظة على الأمـن وحـث الفلاحين على الزراعة ، وأصدر والي حلب أمـراً في سنة ( 983هـ /1572م ) جاء فيه : « إذا بَوَّرَ الشيوخ بعض الأرض فعليهم دفع خراجـها » وهـذا مـا دفعهم للاستمرار في الزراعة
وعندما زار الباحث يالكين المنطقة شاهد التركمان الرحل وهم يتجولون في البراري مع أغنامهم فجلس مع كبار السن في المنطقة وأخذ منهم الكثير من المعلومات حول القبائل التركمانية التي كانت تمارس عمليات سلب ونهب الفلاحين المستقرين في حوض البليخ وعلى ضفاف نهر الفرات وما أدى إلى فساد الحياة الاجتماعية والاستقرار في مدينة الرقة وما حولها مما دفع السلطان أحمد الثاني ( 1691-1695م ) بإصدار فرمان في 30 ربيع الأول من عام ( 1101 هـ 1691م ) يأمر فيه أمير لـواء مرعـش والرقـة وفضيلـة قـاضي حلب أن طائفـة مـن التركمـان بقبائلها ( القادرلي والبكمشـلي والعربـلـي والقـره شيخلي ) وعـدة قبائل أخـرى اعتادت علـى النـهب والغارات على القوافـل الآتيـة مـن بغـداد في المواسـم وتعـرض أصحابها للقتـل واختلاس الأموال أثناء سفرهم حتى أصبح أهالي الرقة يشكون الفقر وعدم الأمن ، لذا يجب ردع القبائل المذكورة حسب تعليمات الشرع
وأمر السلطان قبائل التركمان بممارسة الزراعة والحراثة حـول تـل أبيـض والبليخ وطلب من قاضي الرقة حمايتهم وتأمين الميرة لهم.وعلى أثر استقرار قبائل باي ديلي التركمـانية فـي المنطقة المعروفـة بحـمـام التركمان اعتبرتهم الدولة عشائر والـدة السلطان وكـانت توصـي بـهم وبالمحافظة على مواشيهم وعدم أخذ الزيادة عن المطلوب منهم
صراع التركمان مع قبائل المنطقة في سياق التاريخ الشفوي والمحلي
ومن الأغاني الشعبية عن الصراع التركماني العربي هي أغنية القتال بين قبيلة بني سعيد وقبائل بايديلي التركمانية , ووفقا لهذا الحدث فقد اتحدت قبيلة بني سعيد مع القبائل العربية الأخرى وساروا نحوالتركمان ، وعند ذلك اتحدت القبائل التركمانية من باي ديلي وإيلبايلي واندلعت معركة كبيرة في منطقة الجولاب في الرقة ، وكان زعيم قبيلة بني سعيد اسمه فحل ، وزعيم التركمان محمد باي ( بيك ) بكمشلي. حيث أن، قبيلة بني سعيد كانت مؤلفة من إتحاد 33 عشيرة عربية حيث سار ضد وجود التركمان بايديلي ، وخاضوا حروب كبرى في الرقة في منطقة الجولاب
يُقال إن هذه الحروب قد وقعت في عام 1785م وانتصر فيها التركمان ودفعوا القبائل العربية بالتراجع إلى مناطق قبائل العنزة مما جعل دادال أوغلو إلى كتابة الشعر والأغاني الشعبية حول هذه الملحمة. وإليكم بعض ماجرى بين محمد باي زعيم قبائل التركمان وفحل زعيم عشيرة بني سعيد
يقول فحل : استعد وخذ وقتك ، أنا من يقول له الخادم أنا عبدك ، وكل الطرق المؤدية إلى الحرب من جبال هاس في السمعان إلى أميك هي لي
فيرد محمد باي : من هو فحل فليأتِ لمواجهتي لكي أضعه بين فكي أسناني بقدرة سبحان الواحد ، أنا الذي أمزق من يأتي أمامي من الرجال
ويرد فحل : أنا الدرويش الغريب أرتدي الفولاذ على صدري ، لدي أرتال من الفرسان الأبطال ، لدي حمدي واحد يعادل الآلاف ، أنا لا يحصلن الأرامل مني على الأخبار
ويرد محمد باي : حسن وإسماعيل هما رأس الجهاد ، وسوف يجعل عثمان باي أرض المعارك عارياً ، وسيلحق مصطفى باشا بفرسانه حدوات الفرسان المدفونة في الجثث هم أنا
ويرد فحل : الحمرات الطويلة تغني مثل الثور خيولهم ذات القرون تنام مثل الجبال الشالات التي أعطيت لديل هي أنا
ويرد محمد باي : الآن أقمنا فصل الشجاعة معك , قاومت ألف فارس فاعلم أن حقيبة علوم الحرب ملكي
ويرد فحل : أنا فحل اليوم صرت ملعوناً يدخل عليهم السلام ، استرح وأقبل ، يا إلهي ، يا رسول الله ، لغات الأمان التي تحكي هي أنا
ويرد محمد باي : يقول محمد باي هل تعرف شيئاً عن نفسك ؟ هل سمعت أننا لا نترك إلا وننتقم ؟ هل تعرف كيف هي سهام التركمان ؟ لغتي هي اللغة الأخيرة التي تحكي في ساحات المعارك
ومثال آخر حول هذا الموضوع أنه يمكن الاستشهاد بأغاني حسن آغا الشعبية قبل 80-100 سنة الماضية والذي ينتمي إلى قبيلة إيلبايلي التركمانية في ريف حلب ، حيث يذكر هذه الملحمة البطولية للتركمان ضد القبائل العربية في تلك المنطقة ، وبسبب المشاكل مع بعض قادة العشائر العربية أرادوا الإمساك به وسلخ جلده كما يقال
وقبل وفاته غنى حسن آغا أغاني شعبية تصف الأحداث والمعارك التي جرت بين العرب والتركمان وتمجد ملاحم بطولة رؤوساء القبائل التركمانية في تلك الفترة ، ويمكن العثور على أوجه التشابه في القتال على الأرض بين القبائل العربية والتركمانية في العديد من الأغاني الشعبية ، فمن الواضح أن التوترات التي حدثت بين العرب والتركمان كانت بسبب تقاسم الأراضي
ومثال آخر في هذا الصدد هو الأغنية الشعبية التي نقلها خالد آغا من قبيلة بايندير التركمانية والتي يذكر فيها بوقوع معركة كبيرة بين القبائل العربية والتركمانية ، حيث كانت قيادة المعركة للحاج علي من قبيلة البكميشلي والحاج مصطفى من قبيلة أولاشلي وباكير من جيريت أوغلو وخلفهم الآلاف من رجال قبائلهم الذين سطروا معارك وملاحم بطولية في تلك الفترة ، وبعد هذه الأغنية ذكر خالد آغا بأن الأبطال الأربعة المذكورين في الأغنية قد قُتِلوا غدراً بالسيف أثناء عودتهم من الحرب ، فتنهد وقال : " كم من أرواح فقدناها منذ أن استقرينا هنا " فأصبحت عيناه تذرفان بالدموع ثم تنهد كثير اًو أغلق الموضوع بقوله " أياً ما كان
وقف العثمانيون في أغلب التوترات التي حصلت بين التركمان والعرب إلى جانب القبائل العربية في تلك الصراعات ، وفي الأغنية الشعبية التي سجلها يالكين بعنوان "هاجينا أوغلو" يُقال إن الحكومة العثمانية المعروفة باسم "السلطان التركي" انحازت إلى جانب قبيلة العنزة العربية في صراعها مع هاجينا أوغلو من قبيلة قره شاهلي التركمانية ، حيث تعبر القبائل التركمانية عن هذا الوضع بطريقة واضحة من خلال التأكيد على الروابط العرقية والثقافية بالكلمات التالية : " السلطان التركي يؤدب الأتراك ، فإنهم يضحون بنا كتركمان من أجل بعض الهدايا من العرب " وعلى الرغم من وجود الكثير من إراقة الدماء في صفوف التركمان إلا أنهم لم يستطيعوا قتل جميع أفراد هاجينا أوغلو , وهناك أغنية شعبية أخرى تشرح موقف الحكومة المركزية العثمانية في العلاقات بين التركمان والعرب والتي تسمى قضية مرتضى باي كما يروى حول هذه القضية في كيليس بأن مرتضى باشا ابن حسن باشا الذي ينتمي إلى إحدى القبائل التركمانية قد أرسل رسالة إلى قبيلة العنزة العربية ومن ثم جاء العرب من تلك القبيلة إلى مضافة مرتضى باشا ليطلبوا العفو والسماح وأُنشئت أغنية حول ذلك
ومن الواضح أن التركمان لديهم شعور بأن العثمانيين كانوا مقصرين معهم تجاه القبائل العربية بالرغم من أنهم يسمونهم أتراكاً ، ولقد أرادت قبيلة كولفالي والمؤلفة من 250 خيمة و 2000 نسمة الاستقرار هناك عام 1869-1870م إلا أنهم لم يتمكنوا من الحصول على الأراضي للاستقرار فيها ، فقالت امرأة عجوز من هذه القبيلة : سيدي نحن أتراك وقبيلتنا كلها أتراك ووطننا تركيا لكن ليس لدينا شبر واحد من الأرض , لا أحد يفكر بنا على الإطلاق فدعني أبصق على الحجر حتى لا نموت ، وبهذه العبارات تعلم إلى أي مدى كان قد وصلت حال التركمان في أواخر عهد الدولة العثمانية
وعندما رأى الباحث يالكين الملا أحمد التركماني في خيمته حزيناً ذات ليلة علم أنه تعرض للسرقة والضرب من قبل العرب في منطقة طرسوس وأن عائلته قد قُيِّدت وأُجبِرت على البكاء وأن أموالهم قد سرقت ، وبقي الملا أحمد عاجزاً في مواجهة هذا الوضع , وبعد الكثير من الحروب العربية التركمانية التي هي موضوع العديد من الأغاني الشعبية في أذهان التركمان تم تصوير العرب ونُظر إليهم على أنهم جبناء هاربون من أرض المعارك
وسأل يالكين خليل آغا الذي جمع أنساب العديد من القبائل عما إذا كانت هناك قبيلة تسمى شامان أو شاهمان ؟ فذكر خليل آغا أن هناك سهلاً تركمانياً في سوريا اسمه شهمان ولكنهم فقدوا أصولهم لأنهم كانوا غير متدينين واستعربوا وأسسوا في دمشق وبغداد , وقال : إنهم يحصون أسلافهم السبعة ويعترفون بأنهم أتراك ولكنهم استعربوا وأصبحوا عرباً فيما بعد ، وأضاف خليل آغا أنه كان واضحاً من شجاعتهم أنهم أتراك لأن قبيلة شهمان كانت تحارب إلى جانب التركمان ، وكانوا يحاربون ببسالة ولا يتركون أرض المعركة ولو بقي منهم رجل واحد وكان العرب عكس ذلك ، وهذه العلاقات المتوترة السائدة بين القبائل التركمانية والعربية كانت تنعكس سلباً على حياتهم الاجتماعية , وعلى سبيل المثال ما قاله قره حسن أفندي عن الزواج والذي كان مثيراً للاهتمام ، حيث يقول : لقد أخذنا فتاة عزباء واحدة من العرب لكنْ والحمد لله لم يتمكن العرب حتى الآن أخذ أية فتاة تركمانية من قبيلتنا , والرجل الذي يعطي بناته للعرب كان لا يمكنه العيش ضمن القبيلة آنذاك
وقد نقل الباحث يالكين إلينا معلومات أخرى تتعلق بهذا الموضوع وفقاً لأغنية شعبية نقلت عن محمد باي ابن فيرز باي أنه عندما تزوج من ابنة عمه بيرك آغا أتى إلى حفل الزفاف وهو مخمور ، ومن باب المزاح وجَّه سلاحه في وجه خطيبته موتو خاتون ابنة بيرك آغا فقتلها ننتيجة طلقة نارية من السلاح بشكل غير مقصود ، فاحتار محمد باي ولا يعرف ماذا يفعل ؟ فاجتمع أقصاقالِّي ( كبار القبيلة ) وحسب الأعراف والعادات أنه من يرتكب جريمة قتل من أفراد أسرته ينفى إلى خارج القبيلة ، فلجأ محمد باي إلى قبيلة الموالي العربية ورحب به الشيخ أحمد شيخ القبيلة ، فعاش محمد باي ضمن قبيلة الموالي لمدة عامين وغنى أغنية عن أسرته وقبيلته ، وقرر الزواج من أخت الشيخ أحمد شيخ قبيلة الموالي ، ثم بعد انتهاء فترة النفي عاد إلى أحضان قبيلته التركمانية , وهنا ردٌّ للجميل من الشيخ أحمد لأمير التركمان محمد باي الذي زوَّجه من ابنته وطلب من أبناء عشيرته بتجهيز ابنته العروس بأجمل الحلي وإرسالها مع زوجها محمد باي إلى التركمان , ويذكر يالكين بأنه وفقاً للتاريخ الشفهي والمحلي أنه لا يوجد سوى تبادل واحد معروف للفتيات بين التركمان والعرب في تلك الفترة ، لذلك هناك صلة قرابة مخولة بين التركمان وقبيلة الموالي الحديديين العربية ويُعرِّفون بعضهم البعض بالأقارب , وفي الوقت نفسه تظهر اختلافات ثقافية بين المجتمعين التركماني والعربي وينعكس ذلك في سجلات التاريخ الشفهي والمحلي وفي الأغاني الشعبية ، وأن التركمان تربطهم علاقات مع الأكراد في الجغرافيا القريبة إلى جانب العرب ، حيث كان للتركمان علاقات وتوترات ليس مع العرب فحسب وإنما مع الأكراد أيضاً في المنطقة
ووفقا للباحث يالكين أنه كانت هناك حروب بين القبيلة الكردية المسماة ميلي والتركمان قبل 200 عام ووفقاً لإسبير أوغلو أن هناك أيضاً أغنية تركمانية عن هذه الحرب ، ومن المثير للاهتمام أن اسم زعيم الأكراد خلال هذه الفترة هو تيمور باشا وزعيم التركمان هو قاسم آغا ، وبقدر ما يفهم من البيانات التاريخية الشفهية والمحلية أنه كان المجتمع التركماني قد انخرط في أكثر صراعاته وتوتراته وعلاقاته المكثفة مع جيرانهم العرب
التركمان وحرب الاستقلال في سياق التاريخ الشفهي والمحلي وتصور مصطفى كمال أتاتورك
ظهرت مؤلفات تتعلق بحرب الاستقلال الوطني ومصطفى كمال أتاتورك بين التركمان الرحل الذين يعيشون في جبال طوروس وصحراء الرقة والذين كانوا بعيدين عن حياة المدنية المعاصرة من خلال سردها للأغاني الشعبية القائمة على التاريخ الشفهي والمحلي , وفي ثلاثينيات القرن الماضي أجرى يالكين دراسة وبحثاً حول ذلك ، وهي فترة قريبة جدًا من عهد تأسيس الجمهورية التركية بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية وانتهاء الحروب الروسية العثمانية ومعركة طرابلس وحروب البلقان , حيث وقعت أحداث مهمة مثل الحرب العالمية وحرب الاستقلال ، ومن الواضح أن التركمان لديهم ذكريات مباشرة عن هذه الأحداث ، فهناك الكثير من أبناء التركمان ينقلون هذه الأحداث شفهياً واستناداً إلى الموروث التاريخي الشعبي المحلي ، ويستشهد يالكين بما توصل إليه من بيانات نسب تركمان البدو الرحل من التاريخ الشفهي والمحلي وبأسماء بعض شيوخهم ومنهم صولاك باي ومصطفى باي وكريم باي وسليمان باي وتاكيرلك باي وخليل أفندي الذي قدم معلومات تاريخية عن هؤلاء الأشخاص بناءً على التاريخ الشفهي والمحلي وقال : " عاش تكيرلك مصطفى باي في عهد إبراهيم المصري وحاصره إبراهيم باشا من مصر بالسيف عام 1840م " ثم فكر قليلاً وتابع كلامه قائلاً : مصطفى تكيرلك باي أخذ 180 سلاحاً من فرسان قبيلته وذهب إلى الحرب مع روسيا ووصل إلى قرم سيفاستوبول وأسر العديد من القادة الروس ، وتوفي على جبل في بلغاريا عام 1912م عن عمر يناهز 120 عاماً وهو آخر زعيم لقبيلة خليل أفندي , ولكن يبدو أن المعلومات حول مصطفى تكيرلك باي تحتاج إلى تأكيد
اقتبس عمر آغا مرة أخرى أغنية شعبية تسرد أحداث حروب البلقان والحرب العالمية الأولى وحرب الاستقلال بترتيب زمني تعكس وجهة نظر التركمان حول آخر التطورات في البلاد ، وهذه الأحداث مهمة للغاية بالنسبة للمسن عمر آغا لأنه فقد أحد أبنائه في الحرب العالمية وقُتل ابنه الآخرعلى يد القرويين اليونانيين قرب جوموش كوي أثناء الحرب والمعاهدة , وهذه المعلومات تعكس مساهمات التركمان في النضال من أجل الاستقلال ووجهات نظرهم ومشاعرهم وأفكارهم عن مصطفى كمال باشا , ونقل يالكين ملاحظة مفادها أن التركمان الذين بقوا في سوريا خارج ميثاق ملِّي انزعجوا كثيراً لأنهم انفصلوا بشكل نهائي عن وطنهم الأم تركيا
والأغنية الشعبية التي كُتِبت عند حصار الفرنسيين الأول للمدن التركية في الجنوب تحتوي على معلومات مهمة للتاريخ الشفهي والمحلي لتلك الفترة وكلماتها كالتالي
كتائب كتبوا بالأسود على ورق أبيض واصطف الجنود
سحق الفرنسيون رأس كل من قال إنه تركي
بقي وطننا وقرانا أسيرة
أخرج الجندي رأسه من مخبئه
دم الكافر حلال ودم التركي جريمة لا تغتفر
الأمهات يبكين ، وماذا ستفعل الأخت ؟
دُمِّر وطننا ومدينتنا نتيجة الحرب والحصار
دعونا نجتمع ونتوحد معاً
دعونا نحصل على الأخبار الصحيحة من العثمانيين
دعونا نقص متاعبنا على كمال ( مصطفى كمال )
دُمِّر وطننا وأنت مالكنا وأملنا
وغُنِّيت هذه الأغنية خلال فترة الاحتلال في عام 1918-1919م
ومن المؤكد أن عمليات الانفصال عن الدولة العثمانية تركت آثاراً عميقة لدى المجتمع التركي
تصور الدين والتصوف بين التركمان في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
تأثر مفهوم الدين بين التركمان بشدة بنمط حياتهم وروابطهم الثقافية لكونهم أنهم كانوا يعيشون حياة البدو الرُّحَّل ، وأصبحت الثقافة الشفهية مهيمنة ومصدراً رئيسياً للحصول على المعلومات ، ونتج عن هذا الوضع أن التركمان ابتعدوا عن تأثير المدارس الفقيه وعدم تعلمهم الدين من المصادر المكتوبة ، وأما الذين تعلموا الدين فكان بأسلوب أكثر شفاهة وبطريقة ملحمية ممزوجةً مع ثقافتهم ومعتقداتهم القديمة
فأصبح مفهوم الدين لدى التركمان الرحل يختلف بشكل أو بآخر عن التركمان المستقرين في المدن والبلديات ، وفي إطار الثقافة الملحمية لدى التركمان تطورت ثقافة التقديس والقداسة الدينية بالإضافة إلى أسماء مثل خوجه أحمد ياساوي وحاج بكتاش والي وبوزكييج الذين نُسبت إليهم القيم الأخلاقية والدينية وطرق تصوفهم التي يحترمها التركمان بشكل عام
التقى الباحث يالكين مع أحد المسنين الذين قاموا بزيارة مزار ( ييل بابا ) الموجود في قرى منبج بوزكييج فقال له : إنه تجوَّل في سوريا ولكن توقف عند هذا المكان الذي فيه ضريح أحد كبار الصوفيين في بوزكييج ( ييل بابا ) والذي يعد من الأماكن التي يزورها التركمان سنوياً ويحتفلون هناك بذبح الأضاحي وتوزيع الحلوى
وأفاد الباحث يالكين الذي زار هذا المكان أيضاً في 18 أغسطس 1931م أن حوالي 1000-2000 شخصاً أقاموا احتفالات من خلال العزف على الطبول ولعب الرمح وعند المساء تم ذبح الأضاحي
وأوضح يالكين الذي يعتبر زيارة ( ييل بابا ) طقوساً تتكون بالكامل من عبادة الحجارة ذات الخلفية التاريخية وذلك من خلال ربط أهمية الحجر بالأتراك القدماء ، ويعتبر التركمان الرحل القبر إلهاً ومعبداً من الحجر ، وقد نقل هذه المعلومات عن ( ييل بابا ) استنادًا إلى التاريخ الشفهي والمحلي ، فيقول : إنه جاء من سيفاس في عام 1100م وذهب إلى العزلة في كهف حجري داخل التل وهكذا ، وإن حجر وتربة ( ييل بابا ) أي أبي التركمان هو علاج لهم ، ويُذكر أن ( ييل بابا ) كان يستقبل زواراً من العرب أيضاً ، هذا وقد نقل مجيك محمد أغاني شعبية تتعلق بـ ( ييل بابا )
وأضاف يالكين إلى قرائه أسطورة مقبرة شيخ جوبان دادا في قرية شيخلار وفقاً للأسطورة التي اقتبسها خوجه يحيى أوغلو حقي أن جوبان دادا الذي كان يرتدي عمامة بيضاء وله سبعة إخوة استولى على قرية شيخلار ، بينما أخذ إخوته الآخرون قرى أخرى من غير المسلمين , وهناك كومة من الحجارة تسمى قره أوغلان في باش يايلا بالقرب من باش بينار ، ووفقاً للاعتقاد أنه قبر الجد التركي قره أوغلان كما أوضح يالكين
وبناء على التاريخ الشفهي والمحلي أن هذا الجد قد جاء من الخراسان وكان يمتلك الهضبة ويمتلك العديد من المهارات التي كانت علاجاً لجميع أنواع المتاعب والأمراض ، وكان يأتيه العقيم والفقير لطلب الدعاء والتَّبرُّك
وخلال فترات الانتداب التي تعني التوكيل والوصاية بدأ النضال الوطني للتركمان في شمال سوريا ولأتراك الأناضول في الشمال في وقت واحد , ونظراً للعمق التاريخي والاستراتيجي قد نرى هذين المفهومين من الآن فصاعداً متشابكين لأنه كان مباشرة بعد هدنة مودروس في 30 تشرين الأول ( أكتوبر ) وأنه سوف يتخذ كل من الانتداب والنضال الوطني إجراءات مختلفة
التركمان في شمال سوريا أثناء فترات النضال الوطني والانتداب الفرنسي
في سياق التاريخ الشفهي والمحلي
في بدايات القرن العشرين وبعد انفصال الدولة العثمانية عن سوريا عقب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى مُنحت تركيا على ضمانة تخص تركمان سوريا من خلال اتفاقية أنقرة عام 1921م أي حصلت على ضمانة تخص ضم القرى التركمانية دون التطرق للحدود السورية أبداً ، وفي أعقاب معاهدة لوزان عام 1922م وعندما رُسمت الحدود السورية التركية عام 1923 تم اعتماد الحدود الموضحة في اتفاقية أنقرة رغم محاولات القرى التركمانية للبقاء داخل الحدود التركية إلا أن ذلك لم يجدِ نفعاً ، وبذلك بقي قسم كبير من التركمان في سوريا وأصبحوا تركماناً سوريين ومنحوا الجنسية السورية
بعد ذلك استمر وجود التركمان في مجتمعاتهم المحلية بعد انهيار الامبرطورية العثمانية مؤكدين حقيقة الانتماء إلى الكيانات الوطنية التي ظهرت في المنطقة إبان الانتداب الفرنسي لسوريا ، فقد لعب التركمان دوراً مهماً في تحرير مناطقهم الواقعة ضمن ميثاق ميلِّي ، حيث تم تأسيس حلب كوفايي ميلِّي من أبناء المنطقة الشمالية من سوريا في قرى التركمان دوراً مشرفاً في سبيل الاستقلال الوطني من الانتداب الفرنسي ، حيث كان هناك تنظيم ثورات واحتجاجات ضد الفرنسيين في مناطقهم سواء من حيث تنظيم صفوف شباب كوفايي ميلي وحرب العصابات ضد الفرنسيين في حلب وريفها بالتعاون مع قادة الثورة السورية بعد اندلاعها من قادة العشائر العربية والكردية , وفي تلك الفترة صرح مصطفى كمال باشا أحد قادة الجبهة بأنه على الرغم من قرار إخلاء سوريا من قبل الأتراك في المادة 16 من هدنة مودروس فإن الحدود مرَّت عبر خط اللاذقية خان شيخون أي 100 كيلو متراً جنوب حلب وإن كان ثلاثة أرباع سكان حلب من التركمان الناطقين بالعربية قد استعربوا ، وكان مصطفى كمال قد أبلغ الحكومة في برقية بتاريخ 3 تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1918م بالتمسك بالمدينة تحت السيادة التركية ، ومن ناحية أخرى كان فيصل الذي أعلنته إنجلترا ملكاً في دمشق أعطى إنذاراً بأن جرابلس ونيزيب سيكونان لهما وضع مناسب وفقاً للهدنة ويجب أن يتم إجلاؤهما خلال يومين ، ومن ناحية أخرى أيضاً كان أنصاره يجمعون ضرائب الخيول بين الرقة وتل أبيض ويعذبون التركمان بإلقاء القبض على 100 شخص من وجهاء القبائل التركمانية في سجن تدمر.
وفي مؤتمر باريس الذي انعقد في بداية عام 1919م تمت الموافقة على تقسيم المنطقة بين إنجلترا وفرنسا وإدراكاً منهم أنهم يخدعون شيئاً فشيئاً , وأعلن العرب استقلالهم في المؤتمر السوري العام المنعقد في تموز / يوليو 1919م ولكن ذلك لم يستمر حتى عام واحد ، وفي هذه الأثناء بدأ تركمان حلب واللاذقية في دعم مجاهدي كوفايي ميلي من التركمان الذين بدؤوا بالجهاد ضد الفرنسيين وذلك بعد إطلاق الرصاصة الأولى في هاتاي دورتيول عندما حاول الفرنسيون غزو كيليكيا ، بادئ ذي بدء تم تشكيل المنظمة الوطنية في حلب وقوات الدفاع عن سوريا وفلسطين وحزب المتطوعين وتم تعيين القائد علي شفيق باي / الملقب أوزدمير باي رئيساً
وبناءً على ذلك أغلق أهالي حلب من التركمان والعرب والأكراد مداخل المدينة في 8 كانون الأول / ديسمبر 1919م ونظموا مسيرة كبيرة احتجاجاً على الاحتلال اليوناني في الأناضول الذي بدأ باحتلال إزمير ، والاحتلال البريطاني والفرنسي لسوريا وفلسطين ، وكانت الشعارات : " ليسقط الأمير فيصل والحكومة العربية ويعيش خليفتنا والإمبراطورية العثمانية " وبعد مؤتمر سيواس تم إرسال وفد من حلب إلى مصطفى كمال الذي كان أملًا لإعادة جميع الأراضي المحتلة لسيطرة الأتراك
وفقاً للمادة 94 من معاهدة سيفر قسموا سوريا إلى 4 مناطق حكم ذاتي تحت إدارة الانتداب ، وكان الجزء الأكبر منها دولة حلب التي تغطي كامل شمال وشرق سوريا بمساحة 72243 كيلو متراً مربعاً ، وفي اللاذقية الدولة العلوية تماماً مثل الدولة الدرزية في أقصى جنوب سوريا مع إنشاء هيكل طائفي ، وكان ممثل السكان الأصليين في حلب هو كامل القدسي ، وكانت سوريا بأكملها تحت سيطرة الجنرال غورو المفوض السامي الفرنسي
يذكر الباحث الأستاذ الدكتور عبد الخالق بكر بأن المقاومة في هذه الفترة أصبحت متمركزة في حلب والتي ارتبطت بالنضال الوطني في الأناضول أملًا مشتركاً للجميع.
وتم تأسيس منظمة مجاهدي كوفايي ميلي لتركمان حلب بتوجيهات القائد مصطفى كمال باشا لضمان التواصل والتعاون فيما بينهم ، ومع مرور الوقت تم إنشاء مجاهدي كوفايي ميلي من التركمان في اللاذقية ودمشق وحماة وحمص وبيروت وقنيطرة وطرابلس وعمان ووسعت تنظيمها بفتح فروع لها في كل المدن ضمن هذه الهيكلية من مكونات التركمان والشركس والعرب ، وأُنشِئت قيادة الفيلق الثاني في أضنة وخمس منظمات منتظمة في المنطقة داخل حدود حلب - حماة - اللاذقية - سامانداغ – إسكندرون - كيرخان ، وتم تنظيم الإجراءات بشكل منفصل من قبل جمعيات قانون الدفاع آنذاك ، وكانت المنظمات المحلية لها نفس الغرض مثل مركز تفويض جمعية حلب ومنظمة تحرير الشرق الأدنى وحزب التمرد الوطني
بعد طرد المفوض السامي ساراي وفد الجبل ورَفْضِ مقابلتهم أخبرهم بوجوب سرعة مغادرتهم بيروت والعودة إلى بلادهم وإلا نفاهم إلى تدمر فكان ذلك السبب المباشر لاندلاع الثورة السورية ، حيث دعا سلطان باشا الأطرش إلى عقد اجتماع في السويداء وطافت المظاهرات أنحاء الجبل وجرى الاتصال مع عدد من الزعماء السياسيين في دمشق وعلى رأسهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر رئيس حزب الشعب للتشاور وتنسيق المواقف ، ومع أن حزب الشعب أعلن أنه يسعى لتحقيق مبادئه وبرنامجه بالطرق القانونية المشروعة فقد تم التعاهد بين عدد من أعضائه بصفة شخصية ووفد من الجبل على إشعال نار الثورة في سورية ، واتفق الطرفان على التعاون من أجل طرد الفرنسيين من سورية وتحقيق الاستقلال والوحدة , ولتحقيق هذا الهدف تواصل عبد الرحمن الشهبندر مع الزعيم إبراهيم هنانو ومع قادة روؤساء العشائر التركمانية في المنطقة الشمالية ممثلة حينها بالزعيم التركماني كال محمد مصطفى باشا الذين كانوا سباقين في مقاومة قوات الاحتلال الفرنسي ، وقد دامت أعمال المجاهدين في المنطقة الشمالية حتى 15 نيسان 1926م , ومن أهم المعارك التي جرت في تلك الفترة معركة تل عمارالتي كانت آخر معارك الثورة في تلك المنطقة والتي كانت في أوائل شهر نيسان 1925م , وبدأ إبراهيم هنانو بالتعاون مع قادة العشائر التركمانية وبدعم من تركيا منذ أن وطئت قوات الاحتلال الفرنسي الساحل السوري في أوائل عام 1920م وتحركت نحو الداخل السوري فبدؤوا بالتحرك وحرب العصابات حيث استدعى عدداً من أهالي قريته الذين يثق بوطنيتهم وقدراتهم لتشكيل أول مجموعة جهادية في المنطقة الشمالية أطلق عليها اسم "جمعية الدفاع الوطني" وبدأ عدد المقاتلين المنتسبين لهذه المجموعة بالازدياد حتى وصل إلى خمسين رجلاً في قرية كفر تخاريم ، وبدأت حركة تجنيد مماثلة في القرى والمناطق المجاورة من عرب وتركمان وكرد حتى أصبح عددهم 400 مجاهد ، وقامت هذه القوة المشتركة بالهجوم ليلة 18-19 نيسان عام 1920م على حارم فهزمت الفرنسيين وأجبرتهم على الانسحاب إلى القلعة الرومانية قرب القصبة ، وبقيت هذه القوة محاصرة حتى دخول القوات الفرنسية دمشق في 25 تموز عام 1920م
يقول الأستاذ الدكتور سليمان بكين : خلال هذه الفترة كان رضا باي وأحمد نبغالي من تركمان بكمشلي الحاج علي ونوفيران ( نويران أوغوز ) من تركمان عربلي وعاصم باي ونسيب آغا ومصطفى آغا حاج حسين وبدري باي ومحمد آغا ومجيد آغا من تركمان جكه وصالح بولات من تركمان الباب وقاسم شيخ بوداك وأهالي عفرين حاجي حنان وشيه إسماعيل أوغلو ( إسماعيل زاده هوكا ) وإيه عبدي وأحمد روتو وبولات باي وسوخطة آغا ونورس آغا من تركمان اللاذقية الذين كانوا قادة المقاومة للتركمان والأكراد بالإضافة إلى القوميين العرب مثل عبد الرحمن الشهبندر ، والبيروقراطيون مثل عبد الحميد باشا وجلال بك وهاشم بك ووكيل الوزارة مصطفى نعمت بك ووزراء حكومة فيصل مثل توفيق يازجي صاحب جريدة الدفاع ويوسف بك حيدر صاحب جريدة موفيد وزعماء قبائل مثل شاه سليمان ( قبيلة ابن رشيد ) والشيخ فارس ( قبيلة حديدية ) وعبد الكريم باشا ( قبيلة والي ) في قرية تل الشعير التابعة لمنطقة الباب التي كانت تعد كمركز لوجستي للمقاومة ، وحقق مجاهدو كوفايي ميلي التركماني في حلب النجاح في حروب أقجا قويونلو جرابلس من خلال تخريب طرق الإمداد للفرنسيين أثناء احتلال مدينة عنتاب ، وقاموا بتفجير قطار متجه من حلب إلى مرعش وأسروا بعض الجنود الفرنسيين وهزمت البقية , وبتنظيم من الضباط الذين أرسلهم مصطفى كمال باشا سراً إلى حلب علق تركمان حلب لافتات تركية وعربية في شوارع المدينة ضد الإدارة الفرنسية ، وسُجل أن أهالي حلب من التركمان والعرب الذين كانوا ينتظرون القوات التركية قد قاموا بتعليق الأعلام العثمانية في منازلهم
وفي الواقع كان علم مجاهدي إبراهيم هنانو مطرزاً بعلم عربي من جانب وعلم تركي من الجانب الآخر ، وبجهود كبيرة من العقيد العثماني يحيى حياتي المولود في دمشق والذي كان مرتبطاً شخصياً بمصطفى كمال ، فبدأت ثلاثة مدن هي ( دمشق ، حلب ، اللاذقية ) بثلاث ثورات كبرى على الرغم من وجودها كمرحلة إلا أنه لا يمكن توجيه الضربة النهائية للفرنسيين ، وفي تاريخ20 أكتوبر 1921م اتفقت الحكومة التركية في أنقرة مع القوات الفرنسية على الجبهة الجنوبية وانسحاب القوات الفرنسية من المنطقة ، وكذلك ترك الأتراك هذه المنطقة لقدرهم المحتوم بعد رسم الحدود حسب الاتفاقية الموقعة مع الفرنسيين ، فكانت خيبة أمل من جميع الجوانب للتركمان والعرب والأكراد وعلى وجه الخصوص في حلب واللاذقية
لم تكن الثورات المسلحة بين عام 1920 و1946م متصلة من الناحية الزمنية فحسب ، بل كانت متصلة من الناحية المكانية أيضاً , فثورة الشمال السوري التي قادها إبراهيم هنانو بالتعاون مع أبناء العشائر العربية والتركمانية والكردية كانت متصلة اتصالاً وثيقاً بثورة القصير في سنجق الإسكندرون بقيادة المجاهد الشيخ يوسف السعدون من جهة ، وبثورة جبل التركمان في باير بوجاق وثورة جبل صهيون في منطقة الحفّة التي قادها المجاهدان نورس سوخطة ( نوراز آغا ) من جهة والمجاهد عمر البيطار من جهة أخرى ، وهذه الأخيرة كانت مرتبطة ارتباطاً عضوياً بثورة الشيخ صالح العلي في الجبال الساحلية ، وقد لعب المجاهد هزاع أيوب دور ضابط الاتصال بين هذه الثورة الأخيرة وبين الثورة في المنطقة الشمالية بقيادة إبراهيم هنانو الذي كان لديه تعاون وتنسيق وثيق مع قادة وزعماء التركمان في المنطقة أمثال الزعيم كال محمد مصطفى باشا وابنه الزعيم الحاج نعسان آغا والمجاهد نويران آغا وبولاد دشو وغيرهم في ريف حلب الشمالي لنيل الحرية واسترجاع كرامة الوطن من الاحتلال الفرنسي
وبعد ذلك قام بعض قادة المجاهدين ضد الفرنسيين بقيادة إبراهيم هنانو وبعض المجاهدين التركمان ممن كانوا يدعمونه في الشمال السوري في منطقة جرابلس وعلى راسهم كال محمد مصطفى باشا في شهر آب عام 1920م بزيارة إلى مدينة مرعش ليقابل قائد الفيلق الثاني التركي ، حيث عقد معه اتفاقية كي تمد الحكومة التركية الثورة بالأسلحة والذخيرة وتم توقيع هذه الاتفاقية في 6 أيلول من عام 1920م ثم عادوا إلى سورية وبدؤوا بتنظيم صفوف المجاهدين من كافة الأطياف والعشائر العربية والتركمانية والكردية من جديد , وبعد استتباب الأمور التنظيمية قام إبراهيم هنانو بإعلان الثورة في أواسط شهر أيلول عام 1920م
وبعد انضمام جمهورية هاتاي رسمياً إلى تركيا في 29 يونيو 1939م وكانت في سنجق إسكندرون الخاضع للانتداب الفرنسي ، حينها ألهم التركمان في المناطق الشمالية في سوريا وخاصة تركمان حلب حيث رفعوا العلم التركي اعتزازاً فوق قلعة حلب بعد استقلالها عام 1941م وأعطت الأمل لتركمان سوريا بالخلاص من الاحتلال والانضمام إلى الوطن الأم
وبعد حرب الاستقلال في تركيا بدأ مصطفى كمال أتاتورك في القيام بالثورات التي خطط لها مسبقاً ، حيث ظهرأتاتورك في مدينة كاستامونو أمام جموع من الناس بقبعته المشهورة وأعلن بأن على الشعب التركي ارتداءها والتي سُميت بثورة القبعة في تركيا ، ومن ثم أصدرفي عام 1925م قانوناً لتنظيم الزي واللباس وتغطية رؤوس الرجال باستخدام القبعات والملابس الخاصة حسب المعايير الأوروبية
وكل هذه التحركات في تركيا الوطن الأم كان لها صدى لدى التركمان في سوريا ، وعندما رُفِض قبول التركمان في الدخول للبرلمان السوري خلال فترة الانتداب الفرنسي ومن بعده بحجة أنهم أتراك تواصل بعض قادة العشائر التركمانية السورية حينها ممثلة بالزعيم كال محمد مصطفى باشا مع إخوانهم في تركيا من أجل توحيد المواقف وطلب الدعم من الأتراك حيث كانت علاقته جيدة بالجانب التركي
فقد تم إنشاء إدارة خاصة لإقليم الإسكندرون ( سنجق ) بموجب المادة السابعة من هذه المعاهدة كما كانت تسمى في ذلك الوقت وقبول التركية كلغة رسمية في المنطقة ، ووفقًا للمادة التاسعة فإن قبر سليمان شاه في قلعة جعبر ومحيطها ينتمي إلى تركيا وأن يكون له حراس ويرفع عليه العلم التركي ، وكانت هناك أسباب مخففة مثل المادة الثالثة عشر التي تمنح السكان أو البدو الحق في الاستفادة من المراعي على جانبي الحدود كما في السابق
وفي هذا الوقت حدث شيء مثير للاهتمام حيث نشرت الحكومة التركية خريطة الميثاق ميلِّي الوطني في عام 1924م والتي تضمنت كركوك والموصل والسليمانية وباطومي وشمال سوريا , فلم تمضِ ستة أشهرعلى معاهدة لوزان حتى تم رسم الحدود السورية في لوزان كما اتفقت في معاهدة أنقرة , وعلى الرغم من حرق القرى وإتلاف المنتجات الزراعية والإعدامات خارج نطاق القضاء والاغتصاب والتعذيب من قبل الجنود الفرنسيين والأرمن الذين كانوا يرتدون الزي العسكري الفرنسي ، فلم يستطيعوا كسر عزيمة المقاومة التركمانية لفترة طويلة ولم يكن بالإمكان السيطرة عليها إلا في عام 1927م
وخلال هذه الفترة برمتها كان كال محمد مصطفى باشا من قبيلة البكمشلي فخد الحاج علي زعيماً للتركمان في حلب وريفها ، فجمع كل القبائل التركمانية الموجودة في المنطقة تحت قيادته وإمرته لمقاومة المحتل الفرنسي
وفي تلك الفترة طُبّق في مدارس أنطاكيا وإسكندرون برنامج اللباس الموحد حتى عام 1927- 1928م تماشياً مع إصدار قانون لباس القبعة في تركيا ، وكان كال محمد مصطفى باشا قد أحضر الكثير من القبعات من مدينة غازي عنتاب وقام بتوزيعها على التركمان السوريين بعد اتهام جهات عربية وفرنسية لهم بأنهم أتراك يعملون تحت أجندات تركية ، وحينها قام الزعيم التركماني كال محمد مصطفى باشا مع بعض من زعماء العشائر الأخرى بجلب القبعات من مدينة غازي عنتاب وتوزيعها على التركمان أجمع لإظهار شعورهم وارتباطهم بوطنهم الأم تركيا ، وكذلك لإثباتهم للجهات التي رفضت إعطاء التركمان مقعداً في البرلمان السوري ، أي إن لم تعترفوا بالتركمان كمواطنين سوريين فإننا سوف نصبح أتراكاً وننضم إلى الوطن الأم تركيا ، هذا ما أراد زعماء القبائل التركمانية قوله في تلك الفترة ، ولكن التركمان كانوا ومازالوا يعتزون بتركمانيتهم وبوطنيتهم السورية إلى الآن
فكان الانتداب الفرنسي صعباً للجميع ولكن في الغالب حكم التركمان في حكومة الانتداب أعضاء حزب ميلي حلب الوطني الذي شكله التركمان في خريف عام 1923م وحُكم على الكثير من أعضائهم بالسجن والنفي ، حيث تم إلقاء القبض على زعيم العشائر التركمانية حينها كال محمد مصطفى باشا وشقيقه كال خليل مصطفى باشا مع بعض قادة التركمان في المنطقة ووضعوا في السجن من قبل الفرنسيين وذيولهم من الخونة بسبب نشاطهم القومي بين أبناء جلدتهم من جهة وتوزيعهم القبعات التركية للتركمان في ريف حلب من جهة أخرى ، حيث تم تسميمهم من قبل الفرنسيين في السجن مما أدى ذلك إلى استشهادهم جميعاً خلال أسبوع من خروجهم من السجن ، فاستلم قيادة رئاسة العشائر التركمانية الزعيم الحاج نعسان آغا ابن كال محمد مصطفى باشا ، حيث قاد الجهاد والنضال مع بقية زعماء العشائر التركمانية والعربية والكردية ضد الانتداب الفرنسي أينما وجدوا وخاصة في منطقة جرابلس ومنبج وإعزاز ، وكان يُقدَّرعدد التركمان الذين يتكلمون التركية في حلب آنذاك حوالي 40-50 ألفاً ، والعناصر التركية ( التركمان والأكراد والشركس ) في جميع أنحاء البلاد كانت بين 18-19 في المائة حسب الباحث الأستاذ الدكتور سليمان بكين , ثم أعدت إدارة الانتداب الفرنسي التي اعترفت بحزب الوطن لإبراهيم هنانو وحزب الاستقلال لهاشم الأتاسي في عام 1928م , ووضعت دستوراً جمهورياً في عام 1929م ، وعندما لم يكن ذلك كافياً اضطرت إلى التوقيع على معاهدة فيونيت التي نصت على نهاية إدارة الانتداب في ثلاث سنوات ووعدت باستقلال سوريا
تأميم الأراضي التركمانية من نظام حزب البعث وإجبارهم إلى الهجرة
بدأ الاستقلال ونظام حزب البعث ( الأسد ) وفترة الجمهورية العربية السورية عام 1946م وما زالت مستمرة حتى اليوم ، وكانت هذه الفترة مؤلمة لجميع التركمان وخاصة في شمال سوريا ، حيث لم يكن للتركمان الذين يُعتبرون أتراكاً من قبل القومجيين البعثيين العرب نصيب في هذا الهيكل الجديد لسوريا ، وعلاوةً على ذلك فقد ظلوا في تناقض هويتهم الثقافية مع جهودهم لخلق وعي وطني مشترك من اسم الدولة الجديدة
في أزمة السويس عام 1956م ودعم الحكومة التركية لخصوم جمال عبد الناصر انعكس ذلك سلباً على التركمان السوريين , والكبرياء العربي الذي كسرته إقامة دولة إسرائيلية في فلسطين وهزيمة الدول العربية في الحروب كاد يصل إلى ذروته مع خطاب جمال عبد الناصر القومي والمناهض للإمبريالية ، فانعكس تصاعد القومية العربية في سوريا على التركمان كسياسة تعريب ممنهجة وتم استبعادهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم ، ومع إصلاح الأراضي في عام 1958م تمت مصادرة العديد من الحقول وكروم العنب والبساتين والأراضي التابعة للتركمان بهدف إجبارهم على الهجرة ، فاتبع تركمان باير بوجاق خطى أغواتهم نويران سوخطة في مناسبات مختلفة وهاجر الكثير منهم إلى تركيا في عام 1946م وصودرت القرى التركمانية في منطقة باير بوجاق التابعة للاذقية القريبة من الحدود التركية وتم إخلاؤها بمصادرة متعمدة من قبل الحكومة السورية وإرسال التركمان إلى الداخل وتشكيل حزام عربي بطول 10 كيلومترات على الحدود وإسكان العرب الذين حلوا مكان التركمان دون دفع تكاليف المصادرة ، حيث تُركت 568508 دونمات من الأراضي ولم يُسمح لهم باستخدامها من قبل الدولة السورية , بالإضافة إلى نزاع على 2179.763 فيداناً من الأراضي المملوكة للتركمان فلم تعطِها الدولة السورية لأصحابها التركمان
على الرغم من حقيقة أولئك الذين هاجروا إلى تركيا من أجل الدراسة والعمل والذين جُرِّدوا من جنسيتهم ومصادرة ممتلكاتهم إلا أن هجرات جماعية كانت في أعوام 1950 و 1952 و 1953 و 1967م وكان هناك أيضاً هجرات منعزلة , وقد أُجبِر الكثير من سكان القرى التركمانية على الهجرة إلى تركيا ، وبهذه الطريقة عبرت 350 أسرة على الأقل إلى الجانب التركي من الحدود ، كما تم إجبارأطفالهم بتعلُّم اللغة العربية بالقوة وتقييد حق التصويت والترشح ، وكذلك تم تغيير أسماء القرى والأماكن التركمانية إلى العربية
حافظ الأسد جنرال نصيري استولى على السلطة بانقلاب دموي لمدة 30 عاماً ( 1970 – 2000م ) والذي أُلقِي اللوم عليه في احتلال اليهود الصهاينة لمرتفعات الجولان في حرب عام 1967م والتي يسكنها التركمان ، حيث أرسل البعثيون جنوداً مؤلفة من التركمان إلى الجبهة الأمامية للحرب لأجل التخلص منهم ، فاضطر 56 ألفاً تركمانياً للعيش في ظروف صعبة في ريف دمشق بسبب احتلال الجولان وتجريدهم من ممتلكاتهم ، ومع ذلك فإن الفترة الأكثر صعوبة بالنسبة للتركمان في سوريا كانت في عهد حكم نظام الأسد , ومن المؤكد أن المخابرات لم تَدَعْ أن ترفَّ جفون التركمان القوميين في الداخل فحظر "حركة أيدينا " التي أراد تركمان باير بوجاق تأسيسها ، وسُجن 1600 مثقفاً تركمانياً من ذوي المؤهلات العلمية وألغيت شهاداتهم في عام ( 1994م ) وسعى الكثير من الذين طغى عليهم الاضطهاد باللجوء إلى تركيا ودول أجنبية كلما سنحت لهم الفرصة
مابين أعوام 1980-1985م ( 962 شخصاً ) وبين أعوام 1985-1990م ( 1001 شخصاً ) وبين أعوام 1995-2000م ( 569 رجلاً و 563 امرأة ومجموعهما 1132 شخصاً ) قد طلبوا اللجوء إلى تركيا
وفي الانتخابات النيابية لمجلس الشعب عام 1994م حصل الدكتور عدنان قره يوسف على أكثر من 40 ألف صوت إلا أنه لم يستطع دخول مجلس النواب وانتُخِب بدلاً عنه نائب من طرف جميل الأسد خلال فترة حكم حافظ الأسد ، وتمت مصادرة أراضي القرى التركمانية مثل كاينارجا وجابيتلي وكانديلجيك وبيلفيرين وجانجيك وكاراجيل وجوندشلي وكسب وجولتورمان ، وفي مناطق حلب مثل قرى زياتلي وكارون وماهزنلي وياشلي وجاتال فيران وداندان أغولو وقورو داره وقور فيران ومادنه وشيخ يحيى وجاموش فيران وقيرك ماغاره وتخصيصها لإسكان العرب والأرمن
التركمان والربيع العربي في سوريا
الأحداث التي بدأت في تونس نهاية عام 2010م كمشروع تكنو إمبريالي والتي انتقلت إلى سوريا في مارس 2011م في الواقع كانت جزئياً مع ربيع دمشق وإعلان دمشق في عام 2000م عندما تولى بشار الأسد منصبه ، ولكن سرعان ما توقف ذلك عندما قام الأسد بإعطاء صورة أكثر ديمقراطية وإصلاحية باعتقال 99 شخصاً قد وقعوا على الإعلان ، وبعد الاحتجاجات الأولى في درعا استخدمت الحكومة العنف الشديد ضدها ثم انتقلت الأحداث إلى مدن حماة وحمص وإدلب ودمشق في غضون بضعة أشهر وتحولت إلى عملية صراع داخلي وبتدخلات أجنبية ، وعلى الرغم من أن التركمان كانوا مظلومين ومضطهدين لعقود من قبل النظام إلا أنهم كانوا محايدين وربما مترددين في البداية ، فقد وقعوا بين نارين فيما بعد فتم توجيه التركمان لتشكيل مفارز لحماية أنفسهم وقراهم ، ومن ناحية أخرى نزح كثير منهم كغيرهم نحو تركيا
تأسس أول جماعة مسلحة في منطقة باير بوجاق تحت اسم ممدوح جولحه وقدموا ممثلين في المنظمات المعارضة المشتركة مثل المجلس الوطني السوري ( 2011م ) وبدعم تركي ، وتم تشكيل المجلس التركماني السوري الذي تأسس في أنقرة بمساهمة كبيرة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داوود أوغلو في انتخاب المجلس التنفيذي للمجلس التركماني السوري عام ( 2013م ) والمكون من 14 شخصاً ومجلس النواب المكون من 42 شخصاً من أصل400 مندوباً من هذه الجمعية الأولى ، وتم أخذ البيانات الإقليمية والرقمية في الاعتبار بحساسية شديدة في المجلس
فالتركمان كان لهم دور كبير ضمن ثورة الحرية والكرامة السورية ، حيث شكلوا وحدات عسكرية ضمن الجيش السوري الحر ومن أبرز قاداتها الشهيد عبد القادر صالح ( الحاج مارع ) والشهيد محمد فياض سليمان أبو عبد الله والشهيد جاسم عيسى أبو أحمد والشهيد عمار الأحمد من تركمان باي ديلي البكمشلي وهناك الكثير من القبائل التركمانية الأخرى الذين استشهدوا في جبهات القتال مع النظام على جبهات حلب في سبيل نيل الحرية والكرامة
إن جمع البيانات السكانية للتركمان وغيرهم من الأقليات في سوريا أمر صعب للغاية لأنهم يُعتبرون عرباً في قيود النفوس المحلية ، لكنهم ثاني أكبر مجموعة عرقية بعد القومية العربية في سوريا حسب مؤلف كتب حلب وسوريا للباحث الأستاذ أمين داغ , ففي عام 2009م ووفقًا لأوراسام ( مركز دراسات الشرق الأوسط ) فإن مليوناً ونصف مليون نسمة يتحدثون اللغة التركية أو على دراية بهويتهم التركمانية ، وقسم آخر يتحدثون العربية أو تم تعريبهم جزئياً ويُقدَّر عددهم مليونين نسمة ، ومن حيث المستوطنات يبرز الجانب الغربي والشمال الغربي من شمال سوريا بالقرب من الحدود التركية
وأكبر تجمع للتركمان في محافظة حلب ففي حي الهلك فقط هناك حوالي 350 ألف نسمة ، وهو من أكبرالأحياء الشعبية في مدينة حلب بالإضافة إلى العديد من الأحياء الأخرى مثل الحيدرية والشيخ خضر والشيخ فارس والبعيدين وبستان الباشا والأشرفية وقاضي عسكر وصلاح الدين والعويجة , وبعض التركمان قد هاجروا من القرى التابعة لمدن إعزاز والباب وجرابلس ومنبج في منتصف القرن الماضي
وتوجد مئات من القرى التركمانية في ريف حلب فهناك 46 قرية في إعزاز ، و 51 قرية في الباب ، و94 قرية في جرابلس ، و 54 قرية في منبج ، و 102 قرية في عفرين وبالأخص في كورتداغي ، وفي أربعة قرى من مدينة عين العرب , وهناك تركمان أيضاً يعيشون في مدينة إدلب وفي نواحي معرة النعمان الوسطى وأريحا وجسر الشغور، ويُذكر في العديد من الدراسات الأكاديمية أن قبائل تركمانية قليلة عبر التاريخ قد سكنوا في بعض مناطق دير الزور والحسكة ، وأما في منطقة تل أبيض من محافظة الرقة يعيش فيها التركمان منذ فترة طويلة وهناك حوالي 25 قرية تركمانية فيها
الخاتمة
قدم الباحث يالكين معلومات قيمة حول دراسات التاريخ الشفهي والمحلي في تركيا وهي عمل غني جداً بالمحتوى ، فقد بذل جهوداً كبيرة من خلال تقديم معلومات مهمة جداً عن التركمان ، حيث إنها تنتمي إلى العناصر الثقافية الشفهية الغير ملموسة ، فقام بجمعها ودراستها ونشرها خشية عليها من الضياع على الرغم من أنها دراسة شعبية بشكل أساسي ، وقام أيضاً بجمع بيانات التاريخ الشفهي والمحلي التي تدعمها
وتوفر هذه البيانات معلومات مهمة للغاية عن تاريخ التركمان وتاريخ المنطقة الجغرافية والثقافية والتراثية , وعن طبيعة الحياة والملابس والأغاني الشعبية والترفيه والمشاعر والأفكار ، لأن التركمان هم من البدو الرحل وبعيدون عن حياة المدينة وأكثر عزلة من حيث التفاعل الثقافي فظلَّت ثقافتهم نقية قدر الإمكان ، لذا فإنه يزودنا أيضاً بمعلومات مهمة عن الحياة القديمة للأتراك من حيث التشابه بين التركمان وأسلوب حياتهم وثقافتهم الشفهية ، ونتيجة لتحقيقات الباحث يالكين فقد تم تسجيل البيانات الثقافية الشفهية التي قد يضيع الكثير منها اليوم ويشكل مصدراً مهماً للمؤرخين العاملين في مختلف المجالات
بالإضافة إلى هذه المعلومات الغنية التي تم الحصول عليها عن التاريخ الشفهي والمحلي يوفر بحث يالكين أيضاً فرصة لإبداء بعض التعليقات حول أصل دراسات التاريخ الشفهي والمحلي في تركيا نتيجة دراساته الميدانية الإثنوغرافية التي أجريت في الفترات المبكرة من تأسيس الجمهورية بدءاً من أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية ، وعناصر التاريخ الشفهي والمحلي التي حصل عليها لها صفات معاصرة مماثلة ولا سيما في الغرب
وقد انتشر على نطاق واسع في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، ويمكن اعتبار عمل يالكين رائداً في هذا السياق ، فإنه قام بمقارنة البيانات التي حصل عليها مع عناصر أخرى من التاريخ الشفهي والمحلي وقارنهم أيضاً بالبيانات المكتوبة ، فأعطى أهمية لاختيار الأشخاص الذين نقل عنهم وتحدث إلى شيوخ القبائل والشخصيات البارزة واستدل بالأغاني الشعبية وخبراء التاريخ
لقد كان التاريخ موجوداً مع البشرية وسيستمر ما دام البشر، ويمكّن التاريخ المجتمع من معرفة أنفسهم وبيئتهم ، وعندما يتعرف الشخص على بيئته فإنه يدرب نفسه ويزداد مستوى وعيه وثقافته ، ويزيد التاريخ من حب الإنسان لوطنه ومجتمعه ، فيحافظ على المجتمع ويمكّن من خلاله التطلع إلى المستقبل بثقة أكبر ويُظهر المجتمع التصميم على العيش معاً بفضل التاريخ الذي هو موضوع الإنسان وبيئته ، لذا فإنه يجب أن يعتمد التاريخ على الوثائق عند فحص أعمال الإنسان ، ويمكن أن تكون هذه المستندات بقايا ملموسة أو غير ملموسة , وفي هذا السياق يعتبر عمل يالكين مهماً من حيث بداية دراسات التاريخ الشفهي والمحلي في تركيا والعالم ، والأهم أن يستفيد الناس والمؤرخون من المعلومات المذهلة التي يحتوي عليها
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون
المصادر
- أكسوي مصطفى : مسألة المنهج في معبد العلوم ، دار ييني إنسان للنشرفي إسطنبول 2013م
- أسمان جان : الذاكرة الثقافية تذكير الكتابة والهوية السياسية في الثقافات القديمة العليا إسطنبول 2001م
- اونغ والتر : تكنولوجيا الثقافة الشفوية والمكتوبة منشورات ميتس إسطنبول 1995م
- هواري تواتي : الإسلام والسفر في العصور الوسطى تاريخ وأنثروبولوجيا عمل الباحث منشورات يابي كريدي إسطنبول 2016 م
- علي رضا يالكين : القبائل التركمانية في الجنوب منشورات وزارة الثقافة أنقرة 1977م
- إبراهيم هنانو الآغا الذي أنفق أمواله على قتال المحتل ووضع اللبنة الأولى للدستور ومات فقيراً وحيداً ، مقالة منشورة في موقع السوري الجديد 24/2016
- الدكتور مختار فاتح بي ديلي : مجلة الاخاء مجلـة ثقافيـة ادبيـة فنيـة تراثيـة فصليـة خريف 2020 السنة 60 العدد 366
- مصطفى كمال أتاتورك ودوره في الحركة الوطنية التركية (1881- 1938م ) مذكرة مكملة لنيل شهادة الماجستير في التاريخ العام .
- السنة الجامعية : 2016- 2017م الجمهورية الجزائرية كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية.
- القبائل التركمانية في الجنوب 2 منشورات وزارة الثقافة أنقرة 1977م
- مجلة دراسات العالم التركي : 123 العدد 242 صفحة 183-204 سبتمبر - أكتوبر 2019م عنوان المقال : بحث تاريخ الوصول 29-6-2019م تاريخ القبول 30-7-2019م علي رضا يالكين أحد رواد دراسات التاريخ الشفهي والمحلي في الوصول.
- مجلة دراسات العالم التركي سبتمبر - أكتوبر 2019 المجلد 123 العدد 242 الصفحات 89-130 عنوان المقال : البحث المتلقى 15-7-2019م تاريخ القبول 19-9-2019م تقييم عام للتاريخ المعاصر والبنية التحتية الإستراتيجية للمناطق التركمانية في شمال سوريا - الأستاذ الدكتور. عبد الخالق بكر- سليمان بكين.
- فولكان باياسلي : تطبيقات قانون توحيد التعليم ( 1924-1939م ) في فترة الانتداب الفرنسي وهاتاي / سنجق حتى عملية الانضمام إلى تركيا ( 1924-1939م ) مجلة الدراسات السلجوقية صفحة 22 صيف 2012م
صفحة 354-356
- جاليك غول : ( منبج التركيبة الديمغرافية وتوزيع الجماعات المسلحة وسيناريوهات المستقبل ) تقرير أورسام رقم 16يونيو 2018 صفحة 19-21
- إسكان العشائر في عهد الامبراطورية العثمانية / جنكيزأورهونلو – ترجمة المرحوم الأستاذ فاروق زكي مصطفى 2005م
- أحمد أمين داغ : تركمان حلب ( 1918-2008م ) ( أطروحة دكتوراه ) إسطنبول معهد جامعة مرمرة للدراسات التركية 2010م
- سومر فاروق : ( أوغوز تركمان ) التاريخ - منظمة المعبد - الملاحم إسطنبول مؤسسة الأبحاث العالمية التركية الطبعة الخامسة 1999م
- سوريا في الوثائق العثمانية : البيرق إسطنبول قسم المحفوظات العثمانية 2013م
- مجلة تورك يوردو ، النضال القومي في الوثائق الرسمية مع المجتمعات الاسلامية الوطنية الخارجية (1919-1922). يوليو 2013 – العدد 311
|