معركة ملاذكرد عندما سحق عشرين ألف تركماني ربع مليون بيزنطي
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
طبيب -باحث في الشأن التركي وأوراسيا
يعد معركة "ملاذكرد" من أيام المسلمين الخالدة، مثلها مثل بدر، واليرموك، والقادسية، وحطين، وعين جالوت، والزلاقة، وغيرها من المعارك الكبرى التي غيّرت وجه التاريخ، وأثّرت في مسيرته، وكان انتصار المسلمين في ملاذكرد نقطة فاصلة؛ حيث قضت على سيطرة دولة الروم على أكثر مناطق آسيا الصغرى وأضعفت قوتها، ولم تعد كما كانت من قبل شوكة في حلق المسلمين، حتى سقطت في النهاية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.
كما أنها مهدت للحروب الصليبية بعد ازدياد قوة السلاجقة المسلمين وعجز دولة الروم عن الوقوف في وجه الدولة الفتية، وترتب على ذلك أن الغرب الأوروبي لم يعد يعتمد عليها في حراسة الباب الشرقي لأوروبا ضد هجمات المسلمين، وبدأ يفكر هو في الغزو بنفسه، وأثمر ذلك عن الحملة الصليبية الأولى.
معركة "ملاذكرد"، يوم 26 أغسطس/أب 1071، تمكن السلطان السلجوقي، ألب أرسلان، مع 20 الف مقاتل تركماني من هزيمة ربع مليون من الجيش البيزنطي الجرّار ، ما فتح الطريق أمام الأتراك للانتشار في آسيا الصغرى، التي باتت تعرف حالياً باسم تركيا.
ويعتبر المؤرخون معركة "ملاذكرد" من أهم معارك التاريخ الإسلامي التي وحدت جميع أعراق المسلمين في جيش واحد، الأمر الذي مهد لبناء دولة إسلامية تركية في الأناضول كانت نواة لتأسيس الدولة العثمانية.
تولى السلطان محمد ألب أرسلان، حكم الدولة السلجوقية عام 1064 خلفا لعمه طغرل بك، وتمكن بنجاح من توجيه الفتوحات نحو الأناضول والغرب، وكان له ذلك في الـ42 من عمره.
إثر وفاة السلطان السلجوقي طغرل بك عام 1063، نشب صراع على الحكم، حسمه ابن أخيه ألب أرسلان بمساعدة وزيره الشهير نظام الملك.
عمل ألب أرسلان عدة أعوام على تثبيت دعائم ملكه في المناطق التابعة له قبل القيام بفتوحات جديدة، ثم اتجه بعد ذلك إلى توسيع رقعة الدولة، وفي عام 1071 أعد ألب أرسلان الجيش وخرج به متوجها إلى مصر لتخليصها من حكم الفاطميين، وفي الطريق سيطر على ديار بكر وحلب.
وفي الطريق أيضا، وصل إليه خبر أن الإمبراطور البيزنطي رومانوس ديوجينيس قد خرج على رأس جيش ضخم قاصدا القضاء على دولة السلاجقة وإنهاء الوجود التركي في إيران وشرق الأناضول ثم التوجه إلى بغداد.
كان الهدف الأكبر عند رومانوس، هو تحقيق نصر عسكري كبير يثبّت به نفسه إمبراطورا ويقوي دعائم حكمه لإقناع شعبه والنبلاء في الإمبراطورية البيزنطية أنه يستحق الملك بجدارة، خاصة أنه لم يكن ينحدر من نسل الأباطرة الذين سبقوه.
وعلى إثر علم ألب أرسلان بنية وسعي رومانوس، توجه بجنوده إلى شرقي الفرات وأمر بتسريح معظم القوات التي كانت قد أُنهِكَت، وواصل السير بفئة قليلة من الجنود نحو مدينة خوي (في أذربيجان حاليا)، وأرسل زوجته ووزيره نظام الملك إلى همذان (في إيران حاليا).
ويذكر المؤرخ الأصفهاني في كتابه “تاريخ آل سلجوق” أن “السلطان ألب أرسلان بقي مع 15 ألف فارس من نخبة رجاله مع كل فارس منهم فرس يركبه وفرس بجواره، في حين قدر أعداد الجيش البيزنطي بأكثر من 300 ألف من مختلف الأعراق والأجناس”.
كما تشير المصادر التاريخية إلى وجود اختلاف بالمعلومات في ما يتعلق بأعداد الجيشين، إلا أن بعض الأبحاث الأكاديمية الحديثة رجّحت أن جيش السلاجقة كان يتألف من نحو 50 ألف جندي، مقابل 200 ألف جندي في جيش الإمبراطور البيزنطي، قسم كبير منهم من المقاتلين المرتزقة.
شكّلت فتوحات السلطان السلجوقي أرسلان في إيران والعراق وسوريا، إضافة إلى سيطرته على حدود المناطق المسيحية مثل أرمينيا وجورجيا وغاراته على صقلية، إزعاجا للإمبراطور رومانس، الذي اتخذ قرار الحرب ضد المسلمين السلاجقة للحد من نفوذ دولتهم.
وسعى رومانس إلى تشكيل جيش متنوع الأعراق من الروس والفرنجة والكرج (الجورجيون) والأرمن وغيرهم لمواجهة الدولة السلجوقية، ما دفع أرسلان لعرض الصلح والهدنة عليهم، إلا أنهم رفضوا وأبلغوه أنه لا هدنة إلا في مدينة “الرى” عاصمة السلاجقة، ليوقن ألب أرسلان عندها أنه لا مفر من القتال والمواجهة.
وضع ألب أرسلان خطة محكمة أشعلت الحماس في نفوس مقاتليه الذين بدأوا بالهجوم على جيش البيزنطيين بكل شراسة وقوة في ملاذكرد، ولم تكد تمضي سوى ساعات قليلة على انطلاقها حتى امتلأت ساحة المعركة بجثث القتلى البيزنطيين.
أسفرت المعركة عن أسر الإمبراطور البيزنطي، الذي أطلق سراحه أرسلان لاحقا مقابل تعهده بدفع فدية كبيرة وإطلاق سراح كل أسير مسلم في أرض الروم، وعقد معاهدة صلح مدتها 50 عاما، تلتزم فيها الامراطورية البيزنطية بدفع الجزية السنوية وتعترف بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها، مع تعهّدها بعدم الاعتداء على ممتلكات المسلمين.
رغم أن معركة ملاذكرد لم تكُن فتحاً إسلامياً بالمعنى المعروف بل كانت بمثابة حرب دفاع عن النفس، فقد كان لها تأثير كبير على المنطقة من الناحية الديموغرافية، إذ سمح السلطان ألب أرسلان للقادة ورؤساء القبائل الذين حاربوا معه في فتوحات الأناضول، بحكم المناطق التي فتحوها.
وبعد الانتصار الذي تحقق في ملحمة ملاذكرد بدأت الفترة الأولى للإمارات التركية في الأناضول بالظهور، وكان ذلك أيضا تمهيدا لتأسيس دولة سلاجقة الأناضول أو سلاجقة الروم، وبعدها الدولة العثمانية التي تعد من أقوى الإمبراطوريات في التاريخ.
كذلك أدى استنزاف الإمبراطور البيزنطي خزينة إمبراطوريته لتجهيز الجيش الضخم إلى إضعاف قوتها اقتصاديا، علاوة على هجرة عديد من السكان الروم الذين كانوا يشتغلون بالزراعة في مناطق شرق ووسط الأناضول التي سكنها الأتراك، إلى مناطق غربي الأناضول، وبالتالي حُرمت الإمبراطورية البيزنطية موارد زراعية هامة كانت تعتمد عليها.
بلغ نبأ انتصار المسلمين في ملاذكرد الخليفة العباسي ببغداد، كما انتشر في كل أرجاء العالم الإسلامي، وهنَّأ الخليفة السلطان ألب أرسلان ولقّبه، كما ذكر صدر الدين أبو الحسن علي في “أخبار الدولة السلجوقية”، بـ”السلطان الأعظم ملك العرب والعجم، وسلطان ديار المسلمين برهان أمير المؤمنين”.
وفي هذا الصدد، يقول مؤرخون إسلاميون إن “معركة ملاذكرد أحد أمجاد الأمة الإسلامية، التي يجب أن يفتخر بها ويذكرها كل مسلم لأولاده، وينقلها لمن لا يعرف”، لافتا إلى أنه “حق لكل مسلم أن يحتفل بها، وليست خاصة بعنصر معين من عناصر هذه الأمة”.
كما يشيرون إلى أن “انتصار ملاذكر حمل في طياته رسالة كبيرة للأجيال التي خلفت فترة المعركة، بأنه حال توحد المسلمين في جيش واحد بصرف النظر على أعراقهم وبلدانهم ومرجعياتهم، فإنهم قادرون على فتح مشارق الأرض ومغاربها”.
لقد كان ألب أرسلان رجلاً صالحاً أخذ بأسباب النصر المعنوية والمادية، فكان يقرب العلماء ويأخذ بنصحهم وما أروع نصيحة العالم الرباني أبي نصر محمد بن عبدالملك البخاري الحنفي، في معركة ملاذكرد عندما قال للسلطان ألب أرسلان: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره و إظهاره على سائر الأديان. وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين.
فلما كان تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان ، فبكى الناس لبكائه، ودعا فأمنوا، فقال لهم من أراد الإنصراف فلينصرف، فما ههُنا سلطان يأمر ولا ينهى. وألقى القوس والنشاب ، واخذ السيف، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط وقال: إن قتلت فهذا كفني الله أكبر على مثل هؤلاء ينزل نصر الله.
|