الروابط التركمانية-العربية: تلاحم تاريخي وصمام لوحدة التراب السوري
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
في ظل الصراعات والانقسامات التي تشهدها المنطقة، تبرز العلاقات التاريخية بين مكونات الشعب السوري كركيزة أساسية للحفاظ على وحدة البلاد وهويتها الوطنية الجامعة. ومن بين هذه العلاقات، تُمثّل الروابط بين العرب والتركمان في سوريا واحدة من أعمق وأرسخ العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، والتي تشكّلت عبر قرون من العيش المشترك والنضال المتبادل. هذه الروابط لم تكن مجرد تلاقٍ سطحي بين قبائل أو طوائف، بل كانت تعبيراً عن تحالفات مصيرية في وجه الخطر، وعن أواصر دم ومصاهرة، وعن مشترك حضاري صاغ الذاكرة الجماعية لمكونات المجتمع السوري
وفي قلب هذا التاريخ، تبرز شخصيات تركمانية لعبت دورًا وطنيًا كبيرًا، مثل القائد التركماني نامق مصطفى باشا، الذي شكّل بعمله نموذجًا في الوفاء الوطني والتكامل الاجتماعي
من طاشلي هيوك إلى قمّة الإدارة: سيرة قائد استثنائي
وُلد نامق مصطفى باشا عام 1887 في قرية طاشلي هيوك التابعة لمنطقة جرابلس في محافظة حلب، وهو من قبائل بي ديلي بكمشلي، تحديدًا من فخذ أولاد الـ حاج علي التركمانية العريقة. ترعرع في بيئة تركمانية محافظة، واكتسب منذ شبابه روح القيادة والانتماء الوطني، ليصبح لاحقًا أحد أبرز رجالات الإدارة في سوريا خلال النصف الأول من القرن العشرين
تقلّد القائد نامق مصطفى باشا عدداً من المناصب الرفيعة، وكان أول قائمقام تركماني لمنطقة إعزاز، وهو منصب عكس ثقة الدولة بقدراته الإدارية. لم يكن مجرد موظف حكومي، بل رجل دولة بكل معنى الكلمة، إذ ساهم في تخطيط وتأسيس مدينة عفرين، واضعًا أسسًا إدارية وتنظيمية تحوّلت إلى نموذج يُحتذى به في الشمال السوري

وسام الدولة وشهادات الوفاء
لم تمرّ إنجازاته دون تقدير، فقد منحته الدولة السورية أوسمة عدّة، تقديرًا لكفاءته ونزاهته، كما حصل على وسام الاستحقاق من الدولة العثمانية من السلطان عبد الحميد الثاني، وهو وسام نادر لم يُمنح إلا للقادة الذين تركوا بصمات واضحة في تطوير مجتمعاتهم وخدمة شعوبهم

سمات شخصية استثنائية
ما ميّز نامق مصطفى باشا لم يكن المناصب التي تقلّدها فحسب، بل أسلوبه في ممارستها، فقد كان
صارمًا في قراراته، لا يعرف المجاملة حين يتعلق الأمر بالصالح العام
نزيهًا شفافًا، حتى أصبح اسمه مرادفًا للنقاء الإداري في الذاكرة الشعبية
مخلصًا لقضايا شعبه، منحازًا للعدالة، ومدافعًا صلبًا عن المظلومين دون النظر لانتماءاتهم
قصة منسية من الرقة وحلب: البجدله(بكدله) والعجيل
لعل من لا يعرف تاريخ التركمان في سوريا، قد يستغرب حين يسمع أن أحد أبناء عشيرة العجيل – وهي من كبرى عشائر الجبور العربية – يُعرَف بكونه تركمانياً، أو أن بعض عشائر الجبور يدّعون أنهم من أصل تركماني. هذه الظواهر، التي تبدو للوهلة الأولى متناقضة، تحمل في طياتها قصة وفاء وتاريخ طويل من التلاحم بين المكونين العربي والتركماني
بعد انسحاب الدولة العثمانية من سوريا عقب الحرب العالمية الأولى، بقيت قبيلة "البجدله" (بكدله) التركمانية في الشمال السوري، حيث كانت مستقرة تاريخياً في منطقتي الرقة وحلب وريفهما. وكان أحد أبرز رجالات هذه القبيلة ضابطاً عثمانياً تركمانيا كبيراً في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، يُدعى "نامق مصطفى باشا"، الذي قرّر البقاء مع قبيلته في سوريا بدلاً من الرحيل مع بقايا الجيش العثماني
تقديراً لكفاءته ومكانته، عيّنته الحكومة السورية آنذاك في منصب "قائمقام مدينة إعزاز". من أبرز محطات حياته، كانت تلك اللحظة الفارقة حين تعرّضت عشيرة العجيل (فرع من قبيلة الجبور العربية) لهجوم عنيف من قبائل الطي في منطقة إعزاز، كاد أن يُفنيها. عندها تدخّل نامق مصطفى باشا، مُقدماً الحماية العسكرية والدعم اللوجستي للعجيل، بمؤازرة من فرسان قبيلته التركمانية، البجدلي. وقد شكّل هذا التدخل نقطة تحوّل في العلاقة بين الطرفين، إذ أنقذ العجيل من الإبادة، وترك أثراً لا يُمحى في وجدان عشائر الجبور
منذ ذلك الحين، بدأ الحديث عن "أصول تركمانية" لبعض عشائر الجبور، خاصة العجيل واللهيب، بينما رأى آخرون أن البجدله(بكدله) ، رغم تركمانيتهم اللغوية والثقافية، تعود أصولهم البعيدة للجبور، في تعبير عن امتزاج النسب والمصير والذاكرة المشتركة
إرثه ومكانته اليوم
رغم رحيله في عام 1971، لم يُنصف التاريخ هذه الشخصية بالقدر الذي تستحقه، لكن ذكراه بقيت حيّة في قلوب من عرفوه، وفي الذاكرة الجمعية لعشائر الشمال السوري، التي لا تزال تروي قصص نزاهته وشجاعته. إن الحديث عن نامق مصطفى باشا اليوم هو حديث عن سوريا التي نريدها: وطنًا يُكرّم النزاهة، ويحفظ الوفاء، ويبني على إرث التلاحم الشعبي
تاريخ من التلاحم والمصير المشترك
إن ما حدث في إعزاز ليس حدثاً معزولاً، بل يعكس نمطاً من العلاقة التفاعلية بين العرب والتركمان في سوريا. فمنذ العهد الأيوبي والمملوكي، مروراً بالعهد العثماني، شكّل العرب والتركمان جبهةً واحدة في مواجهة الأخطار الخارجية، ونسجوا معاً مجتمعاً متعدد الأعراق ومتحد الهدف. وقد ساهم التركمان، كجزء أصيل من النسيج السوري، في بناء الدولة الحديثة، وفي الدفاع عن وحدة البلاد خلال فترات الاستعمار والاحتلال الفرنسي
كما امتدت روابط المصاهرة والمجاورة بين القبائل العربية والتركمانية، وشاركتا معاً في زراعة الأرض، والرعي، وتبادل المهارات الاقتصادية والثقافية. وحتى في اللهجات والأمثال الشعبية، تظهر تأثيرات متبادلة تعكس عمق التعايش والتقارب الاجتماعي
الروابط المعاصرة: دروس من الماضي لحماية المستقبل
اليوم، وفي ظل النزاعات التي تضرب المجتمع السوري، تعود هذه القصص التاريخية لتذكرنا بأن الوحدة الحقيقية لا تُبنى على الشعارات، بل على التجارب المعاشة والتاريخ المشترك. كما حدث مؤخراً في السويداء، عندما تعرّض بدو عرب لانتهاكات وظلم، فهبّت عشائر تركمانية وعربية للدفاع عنهم، في مشهد يعيد إلى الأذهان أيام إعزاز، ويؤكّد أن التلاحم بين المكونات ليس خياراً سياسياً، بل ضرورة اجتماعية ووطنية، في مشهد أعاد إلى الأذهان أمجاد التكاتف في زمن الشدائد، وأثبت أن رابطة الدم والنخوة والوطن أقوى من كل محاولات التفرقة
الروابط بين التركمان والعرب في سوريا ليست من قبيل المجاملة أو التحالفات الطارئة، بل هي ثمرة قرون من العيش المشترك، والتضحيات المتبادلة، والتحالفات المصيرية. إن استذكار قصص مثل إنقاذ عشيرة العجيل، أو مشاركة التركمان في الدفاع عن الأرض ضد الاستعمار، يُعدّ ضرورة وطنية في هذه المرحلة الحرجة، إذ يساعد على إعادة بناء الوعي الوطني على أسس من التضامن التاريخي الحقيقي، ويذكّر السوريين بأن مستقبلهم مرهون بقدرتهم على التكاتف، تماماً كما فعل أجدادهم في لحظات المصير
حيث إن الروابط التركمانية-العربية الوطنية لم تكن سردًا عاطفيًا، بل حقيقة تاريخية وواقعًا اجتماعيًا مستمرًا. في وجه العواصف، كان التكافل بين هذين المكونين هو الحصن المنيع لوحدة سوريا عبر التاريخ السوري الطويل، وهو اليوم الطريق الوحيد لاستعادة نسيجها الوطني. وسيرة القائد التركماني نامق مصطفى باشا تظل علامة مضيئة على هذا الطريق، تذكّرنا بأن رجالًا من أمثاله هم من يصنعون التاريخ، ويثبتون أن الوطنية ليست شعارًا، بل عملٌ وإرثٌ وأمانة
رحم الله القائد التركماني نامق مصطفى باشا، وجعل ذكراه خالدة في ضمير الأمة

|