العلاقات التاريخية والثقافية والاستراتيجية بين تركمان سوريا وأذربيجان: جسر الأخوّة المنبثق من الجذور الأوغوزية المشتركة
شهدت العلاقات بين سوريا وأذربيجان في السنوات الأخيرة انطلاقة جديدة نحو مرحلة أكثر ديناميكية. فتركمان سوريا والأذربيجانيون، المنحدرون من الجذور الأوغوزية المشتركة منذ قرون، لا تجمعهم فقط الروابط الثقافية والإثنية، بل تؤسس هذه الروابط أيضًا لأرضية طبيعية للتعاون الاستراتيجي.
الروابط التاريخية والثقافية: استمرار الإرث الأوغوزي
يُعدّ الأوغوز أحد الفروع الرئيسية للأمة التركية، وقد انتشروا من آسيا الوسطى إلى منطقة الشرق الأوسط، ليستقروا في سوريا، الأناضول، وأذربيجان. ونتيجة لهذا الانتشار، تكوّنت مكون تركمان سوريا وأتراك أذربيجان كامتدادين لنفس الأصل في منطقتين جغرافيتين مختلفتين، مع تشابه في اللغة، والعادات، والتقاليد، والمطبخ، والقيم الأسرية، والمعتقدات .
رمز الهوية الثقافية المشتركة: عماد الدين نسيمي
يُعد الشاعر الأذربيجاني الشهير في القرن الرابع عشر، عماد الدين نسيمي، من أبرز رموز هذه الثقافة المشتركة. وقد أُعدم في مدينة حلب السورية ودُفن فيها، مما يجعله رمزًا للجسر الروحي والثقافي الذي يربط بين الشعبين. ويُعتبر نسيمي تجسيدًا حيًا للتراث الأدبي والفلسفي المشترك بين تركمان الأوغوز.
من العلاقات السياسية المتوترة إلى مرحلة استراتيجية جديدة
شهدت العلاقات بين سوريا وأذربيجان في مراحل سابقة توترًا ملحوظًا، لا سيما خلال فترة نظام الدكتاتور حافظ وبشار الأسد، حين دعمت سوريا أرمينيا بشكل علني خلال نزاع قره باغ، من خلال تقديم دعم دبلوماسي وعسكري وأيديولوجي، بل وتم تدريب مقاتلين أرمن على الأراضي السورية، دون النظر لمطالب أذربيجان بإيقاف هذه الأنشطة.
غير أن انهيار نظام الأسد، وتشكيل حكومة انتقالية برئاسة الرئيس الجديد أحمد الشرع، أدى إلى تحوّل جوهري في السياسة الخارجية السورية، حيث بدأت البلاد الابتعاد عن النفوذ الإيراني والروسي، واتباع سياسة خارجية أكثر توازنًا واستقلالية في علاقاتها مع دول المنطقة.
من المساعدات الإنسانية إلى الشراكة الاستراتيجية
عقب سقوط نظام الأسد، سارعت أذربيجان إلى إرسال مساعدات إنسانية إلى الشعب السوري، وأكدت أن هذه المساعدات ليست ذات طابع سياسي بل إنساني بحت. كما أعلنت حكومة باكو رسميًا عن استعدادها للمشاركة في عملية إعادة إعمار سوريا.
وشكل اللقاء الأول المباشر بين رئيس جمهورية أذربيجان، إلهام علييف، والرئيس السوري أحمد الشرع، في 18 أبريل 2025، ضمن فعاليات منتدى أنطاليا الدبلوماسي، علامة فارقة في هذه العلاقة الجديدة. فقد طُرحت خلال اللقاء إمكانية استثمار الشركات الأذربيجانية، وخاصة شركة "سوكار"، في حقول النفط والغاز الواقعة شمال شرقي سوريا. ويُعد هذا التحوّل دليلًا واضحًا على انتقال العلاقة من مجرد مساعدات إنسانية إلى مرحلة التعاون الاقتصادي والاستراتيجي.
تركمان سوريا: جسر حي بين الدولتين
يُشكّل تركمان سوريا، الذين يقدر عددهم اكثر من 3 ملايين نسمة، عنصرًا مهمًا في تعزيز العلاقات الثقافية والاجتماعية بين سوريا وأذربيجان. فهم يتحدثون اللغة ذاتها، ويتشاركون العادات والتقاليد والتراث الثقافي نفسه، مما يجعلهم عاملًا طبيعيًا وفعّالًا في توثيق الروابط الثنائية.
يسكن تركمان سوريا في مناطق واسعة من شمال غرب البلاد، مثل طرطوس، اللاذقية، حماة و حمص، ومحيطها، بإضافة إلى حلب وريفها وادلب والرقة ودمشق والجولان . كما تنتشر قرى تركمانية على الحدود اللبنانية، مثل النصرية، قارون، بريما وغيرها.
وتُقدّر أعداد التركمان في حلب ومحيطها بأكثر من مليون نسمة، وقد عاش التركمان سابقًا في هضبة الجولان، قبل احتلالها من قبل إسرائيل عام 1967. كانت توجد هناك 12 قرية تركمانية ينتمي سكانها إلى عشائر البايات والأفشار، وقد بلغ عددهم أكثر من 50 ألف نسمة في الجولان ، اضطروا إلى الانتقال إلى دمشق ومحيطها بعد الاحتلال. تجدر الإشارة إلى أن مدينة حمص تُعد من المدن التركمانية التاريخية، ويُشكّل التركمان نسبة كبيرة من سكانها.
ومن اللافت أن التركمان المقيمين في المناطق الجبلية والحدودية القريبة من لبنان، قد حافظوا بشكل أكبر على هويتهم مقارنةً بباقي الجاليات التركمانية في سوريا، إذ أن نسبة كبيرة منهم لا تجيد العربية، وما زالوا يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم الأصلية. كما أن مظاهرهم اللغوية، والعادات الاجتماعية، وحتى الخصائص الأنثروبولوجية لديهم، قريبة جدًا من الأذربيجانيين.
من التاريخ المشترك إلى المستقبل الاستراتيجي
إن العلاقات بين تركمان سوريا وأذربيجان لا تقتصر على الروابط التاريخية والثقافية، بل باتت تتحول إلى شراكة استراتيجية مدفوعة بهوية أوغوزية مشتركة، وثقة متبادلة، ورؤية مستقبلية موحدة.
ويؤدي تركمان سوريا في هذا الإطار دور الجسر الحي والرمزي بين الدولتين، مما يعزز من فرص ترسيخ التعاون في مختلف المجالات، خصوصًا في مرحلة ما بعد النزاع السوري. كما تمثل جمعية الصداقة بين تركمان سوريا وأذربيجان اليوم رمزًا حيًا وعمليًا لهذا المسار الجديد، إذ تؤدي دورًا محوريًا في تعميق العلاقات الثنائية وضمان استمراريتها عبر الأطر المؤسسية والثقافية.
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
|