تفكيك الدولة الوطنية السورية..تقاطعات المشاريع الانفصالية من جرمانا إلى القامشلي
لم تعد حالة الانقسام الجغرافي والمؤسسي التي تعيشها سوريا مجرّد نتاج لحرب أهلية طويلة الأمد أو تصدّعات عفوية فرضها الواقع العسكري والسياسي بعد 2011، بل باتت معالم مشروع تفكيك الدولة الوطنية السورية تتّضح يوماً بعد يوم، بملامح منهجية وأدوات سياسية وإعلامية وأمنية تعمل بتناغم في مناطق متباعدة جغرافياً، ولكنها متقاربة في التوجّه والغايات.
فما يجري في الجنوب السوري، لا سيما في مناطق السويداء وجرمانا، وما يجري في الشمال الشرقي، في القامشلي والحسكة، يُظهر تقاطعات واضحة بين مشاريع تُطرح تحت عناوين اللامركزية والكرامة والإدارة الذاتية، لكنها تنتمي جميعًا إلى أفق واحد: تفكيك الدولة المركزية وتقويض أسس الهوية الوطنية السورية الجامعة.
أولاً: الجنوب والشمال الشرقي.. جبهتان بمشروع واحد
اللافت في المشهد السوري اليوم هو التزامن بين التصعيدات الميدانية والسياسية في مناطق متباعدة، تحت عناوين تبدو محلية في ظاهرها، ولكنها تتقاطع في بنيتها مع خطاب واحد يرفض الدولة الوطنية المركزية، ويطالب بتفكيك السلطة المركزية تحت مسمّى اللامركزية السياسية أو الضمانات الحقوقية.
في الجنوب، تُطرح مطالب الكرامة في بيئة درزية تقودها جماعات ذات طابع محلي، غير أنها تحظى بحماية أمنية إسرائيلية وتسهيلات إعلامية مريبة، فيما يتم تعزيز الخطاب المناهض للدولة السورية تحت ذريعة الفساد وغياب العدالة، من دون أن يكون هناك مشروع وطني جامع بديل.
في الشمال الشرقي، تُعيد قوات سوريا الديمقراطية تموضعها السياسي في إطار تفاهمات مع واشنطن، من خلال تجديد الالتزام بمشروع الإدارة الذاتية، والذي وإن بدا في شكله تقنيًا - إداريًا، إلا أنه في جوهره يمثل خطوة متقدمة على طريق فصل الشمال الشرقي عن مركز القرار في دمشق، سياسيًا وثقافيًا وأمنيًا، مع وجود قوى الأمر الواقع المدعومة عسكريًا واقتصاديًا من التحالف الدولي.
ثانيًا: التوقيت والراعي الخارجي.. مؤشرات التنسيق
يصعب اعتبار ما يجري على أنه مجرد تقاطع زمني عابر. فالتحرّكات التي تشهدها المناطق الجنوبية والشمالية تجري بتوقيت دقيق، يتزامن مع تغيرات إقليمية ودولية، ولا سيما مع تعثر مسارات الحل السياسي في جنيف وأستانة، وتزايد الحديث في أروقة السياسة الدولية عن الواقعية السياسية و القبول بالأمر الواقع.
الأخطر من ذلك هو تشابه الرعاة الدوليين لمشاريع الانقسام: فالاحتلال الإسرائيلي يشرف بصورة غير مباشرة على حماية بعض الجماعات الجنوبية في السويداء وريف دمشق، فيما تتولى الولايات المتحدة، عبر قواعدها العسكرية في الحسكة والرميلان، إدارة المشروع الكردي في الشمال الشرقي. هذا التماثل في الرعاية والدعم لا يمكن فصله عن النتيجة التي يسعى إليها الطرفان: دولة سورية مُفرغة من مضمونها الوطني، ومنقسمة فعليًا إلى كيانات منفصلة، حتى لو بقي الشكل الخارجي موحدًا.
ثالثًا: خطاب اللامركزية و الضمانات.. شرعنة التفكيك
تتخذ هذه المشاريع خطابًا ناعمًا يُسوّق شعارات مثل "اللامركزية السياسية"، و"الحقوق الثقافية"، و"الإدارة الذاتية"، وهي مفاهيم تُستخدم بوصفها أدوات سياسية لنزع سيادة الدولة المركزية وتحويل سوريا إلى جزر أمنية وثقافية منفصلة، تُدار كل منها من قبل قوى محلية ذات ارتباط خارجي.
إن هذا الخطاب، وإن حمل بعض المطالب العادلة في سياق الحديث عن الحقوق المدنية أو التنوع الثقافي، إلا أنه في الواقع يُستخدم كحصان طروادة سياسي لتفتيت السلطة المركزية، بما يسمح بإعادة هيكلة الجغرافيا السياسية السورية بما يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية في الإقليم.
رابعًا: من خان الوطن ومن صانه: قراءة في المواقف الوطنية
في ظل هذا المشهد، تتباين مواقف القوى الاجتماعية السورية. فبعض المكونات انزلقت إلى مشاريع تمسّ جوهر الدولة السورية بدعوى الحماية أو التميّز، فيما برزت مكونات أخرى حافظت على تموضعها الوطني، ومن بينها تركمان سوريا الذين ظلوا، عبر كافة مراحل الصراع، متمسكين بخيار الدولة الوطنية، ومدافعين عن وحدة سوريا أرضًا وشعبًا.
لقد لعب تركمان سوريا دورًا محوريًا في مقاومة مشاريع التقسيم، سواء عبر المشاركة الفاعلة في الثورة السورية بهدف إصلاح الدولة لا إسقاطها، أو عبر رفض الانخراط في المشاريع الانفصالية أو المليشيوية. لقد كانوا ولا يزالون أحد صمّامات الأمان في الجغرافيا السورية، ليس فقط بحكم عددهم ومناطق انتشارهم، بل أيضًا بسبب وضوح مواقفهم السياسية وانحيازهم إلى مشروع سوريا الواحدة.
الدولة السورية بين الاستعادة والانهيار
إننا أمام مفترق حقيقي: فإما أن يُعاد الاعتبار لمشروع الدولة الوطنية الجامعة، الذي يؤسس لشراكة سياسية تقوم على العدالة والمواطنة، وإما أن تتغوّل مشاريع التفتيت والانقسام لتُفضي بسوريا إلى مشهد لبننة أو عرقنة مزمنة، تعني نهاية الحلم الوطني السوري.
ولا سبيل لمواجهة ذلك إلا باستعادة المبادرة الوطنية، سياسيًا وميدانيًا، عبر بناء مشروع سياسي جامع لا يستثني أحدًا، ولكنه في الوقت نفسه يرفض المشاريع المرتبطة بقوى الاحتلال والتدخل الخارجي. كما أن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تتم من دون الاعتراف الصريح بمن خانها في لحظة القرار، ومن صانها في أقسى لحظات التشظي والانقسام.
المعركة اليوم لم تعد معركة بين السلطة والمعارضة، ولا بين مكون وآخر، بل باتت معركة بين من يريد لسوريا أن تبقى وطناً لكل السوريين، ومن يريدها ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية على حساب دماء شعبها ووحدة أرضها.
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
|