رجال يصنعون التاريخ …الزعيم الراحل كال محمد مصطفى باشا
الدكتور مختار فاتح بي ديلي
في تاريخ الشعوب، ثمة رجال يمرّون مرور الكرام لا يكاد يُذكر لهم أثر، وثمة رجال آخرون يصنعون التاريخ بأيديهم، فتُكتب أسماؤهم بأحرف من ذهب على صفحات الذاكرة الجمعية لأمتهم، ويخلّدهم الناس كما تُخلّد النجوم في السماء. هؤلاء الرجال لا يُعرَفون بالشعارات أو العواطف، بل بمواقفهم الراسخة في اللحظات المصيرية، وبإخلاصهم لمبادئهم وهويتهم، مهما بلغ حجم التحديات وضراوة العواصف ولعل من الصعب أن تكتب عن رجل هو بحجم وطن، صنع التاريخ وواجه الغزاة وذاد عن كرامة شعبه، فتجد أن الكلمات تضيق مهما اتسعت، وأن الحروف تخجل من أن توفيه حقه. ذلك أن الحديث عن شخصية بمكانة الزعيم الرحل الشيخ كال محمد مصطفى باشا هو حديث عن تاريخ، عن كرامة، عن نخوة ورجولة، عن مواقف شُيّدت بها ذاكرة التركمان في سوريا
لقد كان الزعيم الراحل كال محمد مصطفى باشا من أولئك الرجال الذين لم يقولوا إلا ما يفعلون، ولم يتراجعوا في ساعة الشدة، بل سطروا أسماءهم في وعي أجيال التركمان والعرب والكرد في سوريا بوصفهم رموزًا للقوة، والثبات، والعقلانية، والحكمة، والكرم
لقد أدّى قلمي طويلاً عن الامتناع في الحديث عن هذه الشخصية، لا تهرّباً من الواجب، ولكن خشية أن تقصر كلماتي أمام هذا العملاق الوطني والقومي. إلا أن الواجب يدفعنا أن نرفع القبعة احتراماً لتاريخه، ونسطر سيرته كما هي: نورًا في درب الأجيال
الزعيم كال محمد مصطفى باشا زعيم قبائل تركمان في شمال سوريا
(منتصف القرن التاسع عشر – أوائل القرن العشرين)

التركمان في سهل الجولاب – تاريخ من الجذور والاستقرار
مع بدايات القرن السادس عشر، وبعد أن فتح السلطان سليم الأول بلاد الشام عام 1516م، شرعت الدولة العثمانية بتنفيذ سياسة مدروسة لإسكان القبائل التركمانية في السهول الفسيحة والمناطق الحدودية، بهدف تأمين طرق الحج إلى الحجاز، وفرض الاستقرار في البوادي التي كانت تشهد اضطرابات قبلية متكررة. وكانت منطقة سهل الجولاب، الواقعة بين الرقة ومرعش، من بين المناطق المختارة لهذه السياسة
استقر فيها عدد من القبائل التركمانية التي تنتمي لأفواج الرماة والفرسان العثمانيين، وتم منحها أراضٍ زراعية بنظام “التيمار” مقابل أداء الخدمة العسكرية والولاء للباب العالي. وشكلت القبائل التركمانية مجتمعًا ريفيًا متماسكًا حافظ على لغته، وعاداته، وبنيته الاجتماعية، فكانت الجولاب مركزًا تركمانيًا بارزًا في الجغرافيا السورية-الأناضولية ومن ثم انتشار التركمان إلى بقية الشمال السوري وخاصة على ضفاف نهري الفرات الساجور في منطقة جرابلس وكذلك مناطق الباب والإعزاز ومنبج وعفرين
ومن هذه الأرض، وُلد الزعيم كال محمد مصطفى باشا، فحمل إرث السيوف، وصوت الحكمة، وتاج الزعامة، وكان الوجه المشرق لمرحلةٍ حرجةٍ من تاريخ تركمان سوريا

النشأة والبيئة القبلية
ولد الزعيم الراحل كال محمد مصطفى في قرية طاشلي هيوك التابعة لمنطقة جرابلس إحدى القرى التركمانية الشمالية التابعة لسنجق حلب في منتصف القرن التاسع عشر، في كنف أسرة تركمانية عريقة ذات مكانة قبلية وعشائرية مرموقة من قبيلة #بيديلي #بكمشلي فخد #حاج_علي التركمانية ، يُعتقد أنها من بقايا الأفواج التركمانية التي استقرت في حلب خلال عهد السلطان سليم الأول أو لاحقاً ضمن سياسات التوطين العثماني في ولايات الشام نشأته في بيئةٍ قَبَلية عشائرية لها مكانتها المعتبرة في أوساط التركمان، تمتد جذورها من سهول الخصبة على تخوم سروج ومرعش والراعي وإعزاز وجرابلس ومنبج والباب ، برز اسم الزعيم الراحل كال محمد مصطفى باشا كأحد أعلام التركمان في الحقبة العثمانية المتأخرة، زعيماً مجتمعياً حمل على عاتقه تمثيل التركمان في مرحلة مفصلية من تاريخ المنطقة، تزامنت مع نهاية الدولة العثمانية وملامح التغيير الجيوسياسي في المشرق
منذ شبابه، عُرف بالحكمة والرصانة والقدرة على فضّ النزاعات، جمع من حوله قبائل تركمانية عدّة، ما أهّله لاحقاً لأن يُعرف بـ“زعيم قبائل تركمان حلب”، ويحمل لاحقاً لقب “باشا” كمنحة شرفية من الولاة العثمانيين أو نتيجة دوره القبلي العشائري والاجتماعي غير الرسمي في تنظيم شؤون القبائل
القيادة الاجتماعية ودور الزعامة كان الزعيم كال محمد مصطفى باشا بمثابة القاضي العرفي والمرجع الأعلى بين العشائر التركمانية المنتشرة في شمال حلب، من جرابلس إلى منبج إلى الباب، ومن اعزاز إلى حلب . لعب دور الوسيط في النزاعات القبلية، وكان يُحتكم إليه في قضايا الأرض والدم والميراث، وهو ما جعله يحظى باحترام ليس فقط بين التركمان، بل كذلك بين القبائل العربية المجاورة كعنزة وبني خالد
لم تكن زعامته قائمة على السلاح، بل على الكلمة والهيبة الاجتماعية، وكان معروفًا بلباسه التقليدي الفخم، عمامته البيضاء أو قبّعته الطربوشية، وجلده الفرو في الشتاء، ما أضفى عليه طابع “الأغا التركي” بنسخته السورية
علاقته بالباب العالي
لم تكن علاقته بالدولة علاقة تبعية، بل علاقة شراكة. فقد وثق به الولاة العثمانيون في حلب، وتم منحه لقب “باشا” شرفي، وهو تكريم لا يُمنح إلا لذوي الحظوة والمكانة. وتشير الروايات إلى أن السلطان عبد الحميد الثاني أرسل إليه فرمان تعيين غير رسمي، يؤكد مكانته كزعيم لقبائل التركمان بين الرقة وحلب ويُروى أن الوالي العثماني في حلب أهداه سيفًا مرصعًا، في تكريم خاص لجهوده في حماية الاستقرار المحلي، وهي رواية متوارثة لدى بعض أحفاده
وكان يُرفع العلم العثماني أمام داره في المناسبات، وتُقرأ الفرمانات الرسمية بحضوره، وكان يُنظر إليه بوصفه “والي للتركمان الشعبي في مناطق انتشار القرى والبلدات التركمانية”، إن صحّ التعبير
رفضه للاحتلال الفرنسي والمواقف القومية
مع انهيار الدولة العثمانية وبداية الانتداب الفرنسي، دخلت سوريا مرحلة جديدة من التحديات. رفض الزعيم الراحل كال محمد مصطفى باشا التعاون مع سلطات الاحتلال، ودعا أبناء القبائل التركمانية إلى رفض المجالس المرتبطة بفرنسا، وكان من الداعمين السريين للثورات المناهضة للاحتلال الفرنسي ، في شمال سوريا وخاصة في الرقة وحلب ومحيطهما
كان على تواصل دائم مع إخوانه في تركيا، وتحديدًا في غازي عنتاب والإسكندرونة، وساند جهود الدفاع عن الهوية التركية للتركمان، خاصة في ظل محاولات استبعادهم من المشهد السياسي السوري بدعوى أنهم “أجانب”
في ظل الميثاق الملي ومعاهدة لوزان
بعد توقيع معاهدة لوزان، وظهور الميثاق الملي التركي عام 1924، كان للتركمان في سوريا صدى واضح لهذا التحوّل، خصوصًا بعد أن رفضت سلطات الانتداب الفرنسي منحهم مقاعد في البرلمان السوري. عندها، نظم الزعيم كال محمد مصطفى باشا حملة رمزية ذات دلالة سياسية؛ فقام بجلب القبعات التركية الحديثة من غازي عنتاب، ووزعها على التركمان في الشمال السوري، كتعبير عن ولائهم القومي لتركيا، ورفضهم للتهميش من قبل الانتداب الفرنسي وذيولهم من الحكام المحليين
وقال لهم بلسان الحال: “إن لم يعترفوا بنا كسوريين، فسنكون أتراكًا ونلتحم بالوطن الأم”. وكان هذا التصرّف رسالة واضحة إلى سلطات الانتداب الفرنسي بأن للتركمان سنداً وطنيا وقومياً يتجاوز حدود سايكس-بيكو
الاعتقال والتصفية
لم يرق هذا النشاط القومي لفرنسا وحلفائها المحليين. وفي عام 1937، تم اعتقال كال محمد مصطفى باشا مع شقيقه كال خليل مصطفى باشا وعدد من قادة التركمان، ووُضعوا في السجن. وهناك، وبطريقة غادرة، تم تسميمهم جميعاً داخل المعتقل السجني، وقضوا نحبهم خلال أسبوع واحد من بعد إطلاق سراحهم ودُفن في قرية طاشلي هيوك التابعة لناحية الغندورة بعد أن ترك بصمةً لا تُنسى في ذاكرة التركمان.وقد شيّعه الآلاف من أبناء القبائل، واعتُبر موته نهاية حقبة وبداية مرحلة جديدة في التاريخ المحلي للمنطقة. وقد حُفظت صورته في إطار بيضاوي من الجلد الأحمر الداكن، وتوارث أحفاده تلك الصورة التي تحوّلت إلى رمز للكرامة والزعامة والهوية التركمانية
بوفاته، فقد التركمان أحد أعظم رموزهم في النصف الأول من القرن العشرين، لكن الزعامة لم تنقطع
حاج نعسان آغا… استمرار السلالة والرمز الجديد بعد وفاة الزعيم كال محمد ، انتقلت الراية إلى ابنه حاج نعسان آغا، الذي لم يكن أقل شأناً من والده. فقد نشأ في كنف الزعامة، وتربى على الكرم والعزّة، فكان خير خلف لخير سلف. نشأ على مكارم الأخلاق، وتربى على مجد الأجداد. جمع القبائل من جديد، وأعاد ترميم العلاقات مع العرب والكُرد، وحافظ على مجالس التركمان وأعيادهم وتقاليدهم، فكان الجسر الذي عبر به التركمان نحو القرن العشرين دون أن تذوب هويتهم
واصل النضال ضد الانتداب الفرنسي، وكان أحد الرموز الوطنية في شمال سوريا، وشارك في ثورات جرابلس وإعزاز والباب ومنبج، ودعم الحركات الوطنية في حلب. وكان الصديق والعدو يشهد له بالمروءة والوفاء والكرم، وكان إذا نزل ضيف إلى داره، لا يبيت جائعاً ولا محزوناً أعاد تثبيت العلاقات مع وجهاء العرب والكُرد، وحافظ على التقاليد التركمانية من خلال المجالس والأعياد والمناسبات، فكان الجسر الذي عبرت عليه القبيلة نحو القرن العشرين دون أن تفقد هويتها أو تذوب في محيطها
سلالة من ذهب… وهوية لا تموت
إن سيرة الزعيم الراحل كال محمد مصطفى باشا، ومن بعده الحاج نعسان آغا، ليست مجرد فصل في كتاب، بل مرآة لهويةٍ عميقة الجذور، ولتاريخٍ طويل من الصمود والتوازن والكرامة. لقد قدّما نموذجاً فريدًا في الزعامة التركمانية السورية: زعامة تجمع بين الوفاء للوطن، والانتماء للهُوية، والكرم، والشجاعة، والحكمة
ما زال أحفادهم اليوم يتوارثون الاسم والمكانة، ويحملون الشعلة، ويقفون أمناء على ذاكرةٍ لا يجوز أن تُنسى، ولا أن تُكتب إلا بماء الذهب لقد كانوا، بحق، حراس الهُوية التركمانية في مرحلة حرجة من تاريخ سوريا، وما زال أحفادهم حتى اليوم يتوارثون الاسم والمكانة، كأمناء على ذاكرة لا يجوز أن تُنسى
يمثّل الزعيم الراحل #كال_محمد_مصطفى_باشا نموذجًا للزعيم التركماني التقليدي الذي جمع بين الهيبة التركمانية العثمانية والحكمة القبلية والعشائرية والالتزام بهوية قومية غير مصطنعة. لقد حافظ على لحمة قبائل تركمان حلب في مرحلة حرجة، وكان أحد الركائز الاجتماعية التي حفظت التوازن بين القبائل والمركز، بين الانتماء للدولة والولاء للأرض
وتبقى سيرته صفحة مشرقة من صفحات التركمان في شمال سوريا، تستحق أن تُوثّق وتُدرَس ضمن سرديات التاريخ المحلي الذي تجاهله المؤرخون الرسميون طويلاً
المصادر
فاروق سومر ...كتاب "الأوغوز ‹التركمان› تاريخهم ، تنظيماتهم القبلية، سيرتهم-
2024 الدكتور مختار فاتح بي ديلي...دراسات في التاريخ الشفهي والمحلي للتركمان في سوريا والأناضول-
https://kitabat.com/cultural/%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%81%D9%87%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%B1/
|